للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لك وجه محاسن الخلق فيه ... ما ثلاثُ تدعو إليه القُلوبا

على أن جريراً قد ناقض وأحال وأفسد ما استصلح من شعره حين رجع فقال في البيت الذي يليه: (كأنها مزنة. . . أو درة) فإن هذا الحرف (كأن) للتشبيه، والتشبيه يدعى قصور المشبه عن المشبه به، وهو قد ادعى أنه يرى صاحبته فوق ما يصف الناس (من شيء) يروقهم أو يروعهم أو يفتنهم.

ثم جاء مسلم بن الوليد يعقب جرير يقول:

مثالها زهرة الدنيا مصوَّرةً ... في أحسن الناس إدباراً وإقبالاً

أستودع العينَ منها كلما برزت ... وجها من الحسن لا تُلقى بالا

فالعين ليست ترى شيئاً تسرُّ به ... حتى تُريني لما استودعت تُمثالا

ففارق مسلم جريراً حيث جعل صاحبته (زهرة الدنيا مصورة) أي محاسنها وتهاويل جمالها، وأنه يجد عندها تمثالاً لكل حسن تسر به العين.

ثم جاء أبو نواس فألبس الشعر والمعنى من توليده وحسن مأخذه ولطف عبارته فقال:

لها من الظرْف والحس ... ن زائدٌ يتجدَّدْ

فكل حُسن بديع ... من حُسنها يتولَّدْ

ثم جاء أبو تمام فقَصّر، ولم يحسن اختيار اللفظ، وأضعف روح الشعر فيه فقال:

أنظر فما عاينت في غيره ... من حَسَن فهو له كله

وتناوله البحتري، فزاد فيه معنى، ولم يجود نسجه فقال:

وأهيف مأخوذ من النفس شكله ... ترى العينُ ما تحتاجُ أجمعُ فيه

فالزيادة في قوله (مأخوذ من النفس شكله) وهي جميلة لولا شناعة قوله (مأخوذٌ)، ولو عدل فيها إلى مثل نهجه في صفة الخمر

أُفرغتْ في الزجاج من كل قلب ... فهْي محبوبة إلى كلِّ نفس

لأجاد وبذَّ من سبقه. وقد فطن ابن الرومي إلى معنى البحتري فاتخذه لنفسه وسبق حين قال:

وفيك أحسن ما تسمو النفوس له ... فأين يرغب عنك السمع والبصر

وقد قصر ابن الرومي في الشطر الأول عن المعنى الذي أراده البحتري، ولكنه جاوز

<<  <  ج:
ص:  >  >>