للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ومن الأرض، ومن السماء، ومن عمل الأيام والدهور، ومن الهندسة، ومن الفن. . . ثمَّ

(فيك منى ومن الناس ومن كل موجود وموعود تؤام)!! أفلا يدل هذا على أن الشاعر الفيلسوف كل التفصيل فرمى بالجملة في (كل شيء) من (موجود وموعود) بعد الذي تعب في بيانه وتفصيله وذكره وتعداده؟؟ وأي شيء بقى له لم يعدده من متنوع الصفات ومختلف النزعات وشتى المزايا والعالم الكامل)! إلا هنات هينات كذا وكذا. . . وما ذكر الرافعي

هذا. . . وقد اقتصر الأستاذ على نقل بعض كلام الرافعي في نقد هذا البيت ونحن نتمه للقراء بعد ذلك:

(إن ذلك المعنى الذي بنى عليه هذا المسكين غزله الفلسفي قد مر في ذهن أعرابي لم يتعلم ولم يدرس الفلسفة، ولا قرأ الشعر الإنجليزي والفرنسي والألماني والفارسي، وليس له إلا ذوقه وسليقته وطبيعته الشعرية، فصفى المعنى تصفية جاءت كأنما تقطر من الفجر على ورق الزهر بقوله:

فلو كنت ماء كنتِ ماء غمامة ... ولو كنت درّاً كنت من درةِ بكر

ولو كنتِ لهواً كنتِ تعليل ساعةٍ ... ولو كنت نوماً كنتِ إغفاَءة الفجرِ

ولو كنت ليلاً كنت قمراَء جُنِّبَتْ ... نحوس ليالي الشهر، أو ليلةَ القدر

(ولو كنت كنت) هذا أبدع عنوان لأجمل قصيدة في فلسفة الغزل. وانظر كيف جعل الأعرابي حبيبته أصفى شيء، وأغلى شيء، وأسعد شيء، وكيف صورها شعراً للشعر نفسه. ثم قابل هذا الذوق المصفى بذوق من يجعل حبيبته من كل شيء، ومن كل موجود وموعود تؤاماً وزؤاماً وبلاء عاماً) انتهى كلام الرافعي

فإن شئت أن تعرف كيف يتناول الشعراء هذا المعنى المغسول من الشعر (فيك من كل شيء) فانظر حيث يقول جرير، وهو فيما نعلم أول من أفتتحه:

ما استوصف الناسُ (من شيء) يروقُهم ... إلا أرى أمَّ عمْر فوْقَ ما وَصَفوا

كأنها مُزْنةُ غرَّاء واضحة ... أو درة لا يوارى ضوءها الصدف

وقد أحسن جرير تحديد المعنى وتجريده من اللغو (من شيء يروقهم) وجعل في صاحبته من ألوان الجمال ما تهفو إليه نفوس الناس على اختلاف أذواقهم وتباين أنظارهم. وكأن أبا نواس نظر إلى هذا المعنى حين قال:

<<  <  ج:
ص:  >  >>