حينما أمسكت بالقلم لأكتب الكلمة الأولى بهذا العنوان، كان في ذهني ونفسي صدى مطالعاتي القديمة للرافعي، وهو صدى غامض يدل على الجملة، ولا يمد الناقد بالتفصيل.
وحينما كتبت الكلمة الثانية، لم يكن بين يدي إلا نقده لوحي الأربعين، فأبديت رأيي فيه كما رأى قراء الرسالة.
ولكنني حين رحت أتلمس الأمثلة من بعض كتب الرافعي واخترت أن أبدأ (برسائل الأحزان)، اصطدمت بالرافعي من جديد، واختلف الصدى الغامض القديم، عن الصوت الواضح الجديد. (أحسست صدق الأستاذ سعيد في نعته لنقد وحي الأربعين، فإنه - على ما به - في الذروة من نتاج الرافعي كله كما قال!
وأحسّست أنني أخطأت في عدم تحديد (الذهن) الذي قلت أن الرافعي يصدر عنه في أدبه، فمن الذهن ما هو سليم أو مريض، وما هو مشرق أو خابٍ، وما هو متفتح أو مغلق. . . إلى مالا نهاية له من ألوان الأذهان:
وأحسست أنني خدعت في (قياس ذكاء) الرافعي، ومعرفة طبيعته ودرجته، حتى ردتني إلى القياس الصحيح (رسائل الأحزان)! وإنني لأحس بالغضاضة في هذا التراجع، فيعزيني عنه (الصدق) الذي أعبر عنه حين أنصت لإحساسي وأصور حقيقة رأيي.
الرافعي أديب الذهن. ولكنه الملتوي المعاظل المداخل الذي لا يستطيع أن يسلك أقرب طريق إلى ما يريد، بل يتخذ الدروب والمنحنيات، ويلتف حول نفسه، ويعصر نفسه، مرة ومرة، قبل أن يصل إلى الحقيقة الهينة الصغيرة، التي تعثر بها الأذهان المستقيمة مدى ذراع.
والرافعي يصدر في أدبه عن ذكاء، ولكنه ذكاء اللمحة والومضة، لا ذكاء الإشراق والصفاء. الذكاء الذي يخبط بجناحه هنا، ويخبط بجناحه هناك، فيهيئ للناظر انه يرفرف ويطير، والواقع انه مكب على الثرى، وما هي إلا خفقات الجناح.
والرافعي في رسائل أحزانه يتراءى كأنما يتمطى في أغلال، أو يتنزى في وثاق، يحاول أن يتلفت من هذا وتلك، وهو ينغض رأسه ويضرب بقدميه، ويضرّس أنيابه، في حركات عصبية، ليخلق اللفظة بعد اللفظة، والجملة بعد الجملة، والخاطرة بعد الخاطرة، في جهد وعناء!