أن الأعرابي ليرتفع إلى الذروة الفنية في قولته الساذجة، ويخيِّل إليك الحياة المشرقة في (ضميره)، - لا عينيه وحدهما - وهو ينظر إلى الشمس على حائط حبيبته ويكشف عن (الخصوصية) الدقيقة التي ترى (شمس حبيبته) وكأنها خلقة خاصة بها لا يشاركها فيها سواها. . . الخ ما يتسع له التصور من ألوان الامتياز الوجداني في هذا الأعرابي.
ولكن صاحبنا لا يرى في هذا إلا أن (الشمس على حائطها كالشمس على البلور الصافي، لا على الحجر والمدر).
فمدار الجمال إذن هو نفاسة ما تطلع عليه الشمس وثمنه في السوق، ولاشك أن البلور أغلى من الحجر والمدر!
ولعله هو أو أحداً من أصدقائه لا يستطيع أن يصدق أن الشمس على (الحجر والمدر) الرخيصين أجمل؛ أو على الأقل قد تكون في وضعٍ ما أجمل من الشمس على (البلور) الغالي الثمن، وذلك عند (الطبع) الحي، الذي يعيش في الحياة الرحبة، لا في سوق المجوهرات!
واسمع. . . في رسالة أخرى:
(ثم يجري كلامه فيها شعراً خالداً مطرداً كنهر الكوثر في رياض الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت)
أرأيت؟ الذهب والدر والياقوت!
ولا يتشكك صاحبنا في أن النهر الذي حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت أجمل من النهر الذي حافتاه من العشب الأخضر، ومجراه على الرمل والطين.
لا يلتفت إلى أن الأول مصنوع قد يهيج العين لحظة ثم لا تحس وراءه حياة، ولا معني أعمق من ظاهره، فتمله النفس؛ أما الثاني فهو لا يأخذ (العين) بالبريق والوهج، ولكنه يملأ (النفس) بالروعة والجمال، ويتيح لها التأمل العميق في الطبيعة، والاندماج بين الحياة الجارية في النهر والحياة الجارية في النفس، لقرب النشأة والتكوين.
لا لا. فالمهم هو البريق الذي يخلب الحس، والأهم هو (السعر) المقدر للياقوت والطين. وشتان شتان!
وبعد فقد كان في هذه الأمثلة الكفاية لتوضيح نظرتي في الرافعي والبرهان عليها، كل مثال