إن بين آثار كتابنا في هذا الزمان قطعا فنية تتدفق روعة وجمالاً، ولكنك لا تجد إلا اليسير منها ما يمكنك أن تنقله إلى لغة أجنبية دون أن يقول لك أهلها إنهم قرءوا مثلها في مؤلفات كتابهم. . .
لكأن العناية قد أرادت بعث الأدب العربي صافياً ليجمع ما انفرط من شمل هذه الأمم التي تناهبت الأذواق العربية بيانها، فأرسلت من اختارت في مطلع نهضتنا يبعثون لغة الجنان بعد طول هجوعها، يبعثونها ملهمة من الوحي ومما أبدعه استغراق المتقدمين حين كان شعورهم تسبيحا وتفكيرهم صلاة وسجوداً. يبعثونها لا يكدر نهرها المتدفق ينبوع دخيل، ولا تشوه أساليبها عجمة، ولا يحتل إعجازها بإيجازها وإحكامها، ما لا قبل لها به من الأساليب الغريبة. لكأن العناية أرادت أن تفتح آذان الجيل الناشئ إلى أصوات الأجيال المتوارية، فاختارت لها رسلها وفي طليعتهم الرافعي، انشاته في بيئة خاصة، وقضت له بألا يجول إلا في دوائر الأدب العربي، وبلته بالصمم كيلا يسمع صوتاً إلا صوت نفسه تتجاوب أصداء العروبة فيها من جميع حقبها وأطوارها، ليصرخ صرخته المدوية كأنها هتفة بوق النشور في هذه الشعوب التي أضاعت استقلال تفكيرها، فتناهب بيانها الغريب من كل بيان حتى فقدت ثقتها بنفسها فقضت على ميزاتها وعزة حياتها.