(والبحر يعلم اللائي والذين يسبحون فيه كيف يغرقون في البر لو درى هؤلاء وهؤلاء معرة اغتسالهم معاً في البحر لاغتسلوا من البحر، فقطرة الماء التي نجستها الشهوات قد انسكبت في دمائهم وذرة الرمل النجسة في الشاطئ ستكبر حتى تصير بيتاً نجساً لأب وأم.
(يا لحوم البحر سلخك من ثيابك جزار. . .)
هذه نماذج تلمح الرافعي من خلالها لمحاً، نضمنها هذا المقال لتشهد هي له بأنه الكاتب المطبوع على سجية نفسه، والمفكر المبتكر للمعاني من حياة الشرق نفسها، لا مما صوره عباقرة الغرب من حياتهم في تأليفهم. وإذا أنت أردت أن تعرف الرافعي وتحيط بآفاق تفكيره وشعوره فانك لتجد فيما كتب ما يستطير لبك ويشغل ذهنك حولاً كاملاً. ولكن يكفيك لتخشع أمام الرافعي وتعلم في أي مقام يضعه بيانه من الأدب العالمي، أن تقلب مصنفاته ساعة فترى كان أناملك تفتح لك من كامنات نفسك ما كنت تحس به غمامًا فإذا هو الفلك الخفي يدور أمامك بكواكبه ويبهرك بأنواره. . .
إن كتابنا البارزين ممن أجادوا لغات الغرب ووعوا تواريخها لا يسعهم، إذا نحن استثنينا النذر اليسير من المجددين بينهم، أن يلبسوا تفكيرهم وشعورهم بياناً عربياً دون أن تظفر من هذا البيان صور وانطباعات تنقل إليك رواشم اصلها. فإن في أدبنا اليوم ارتشاحات فرنسية وإنكليزية وألمانية وروسية الخ. . . ولكم من قطعة أدبية لولا ثقتك بعبقرية كاتبها لحسبتها مترجمة عن اللغة الأجنبية التي يجيدها لا مستلهمة من أجواء بلاده وأدب قومه. ولكم من رواية يكفيك أن تبدل الأسماء العربية فيها بأسماء إفرنجية ليصح أن يدعى تأليفها إلى كاتب أجنبي يصوّر إخلاف الغرب ونظمه وعاداته.
إذا كان التفكير العلمي المحض مشاعاً بين الأمم ولا قبل لك بالتمييز بين اكتشاف يوفق إليه جرماني، واكتشاف آخر يظفر به لاتيني أو عربي، فليس الحال كذلك في الأدب، لأنه خطرات أفكار، وسانحات شعور، تخرج من صميم الفطرة وتتخذ حتما الصور والألوان الخاصة بلغة كل شعب وتقاليده وأخلاقه، فليس هنالك أدب عالمي كما انه ليس هنالك فن عالمي وموسيقى عالمية بما تدل عليه هذه الكلمة من الإطلاق. غير أن هنالك آدابا وفنونا وموسيقى تبلغ الذروة من الإبداع، فإذا نقلت إلى أمة غريبة عن منشئها احتفظت بالقدر الكافي من الجمال لتؤثر في نفوس الأمة الغريبة.