وللأحنف ناحية أخرى بديعة هي ناحية أدبية غزيرة أمدت كتب الأدب العربي بغذاء صالح قوي، هو ما روي عنه من جُمل حكيمة جمعت إلى حسن اللفظ وقوته، جودة المعنى وصحته، ونضحت عليها صفات الأحنف النبيلة الشريفة وكانت خلاصة لحياة حافلة بالتجارب. كانت هذه التجارب والمعاني في دماغ ارسطو اليوناني الفيلسوف فصاغها صياغة علم وفلسفة، وكانت في دماغ الأحنف بن قيس العربي البدوي فصاغها في شكل حكم وأمثال وجمل موجزة، تحمل معاني
غزيرة، فكان لكل مزايا منهجه في النظر ومنهجه في القول
لقد وصل الأحنف في الإسلام ما بدأ به أكثم بن صيفي من الحكم في الجاهلية، وزاده الإسلام غزارة وفيضا، وكانت حياته العملية من حروب واتصال بالسلطان والولاة وخبرة بالناس ونزاعهم وأنظارهم، وسيادته وكثرة سؤال الناس له عما سوده مددا صالحا يستقي منها حكمه وأقواله، من مثل قوله: (انصف من نفسك قبل أن يُنتصف منك، ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة، شريف من دنئ، وبر من فاجر، وحليم من أحمق. لا خير في قول إلا بعقل، ولا في منظر إلا بمخبر، ولا في مال إلا بجود، ولا في صديق إلا بوفاء، ولا في حياة إلا بصحة وأمن ومن حق الصديق أن تحتمل له ثلاثاً: ظلم الغضب، وظلم الدالة، وظلم الهفوة، الخ وله أقوال في الولاة وفي الصداقة وفي السؤدد وفي مكارم الأخلاق ملئت بها كتب الأدب، تدل على صدق نظر، وصحة التجربة، وقدرة على صياغة ذلك في جمل رصينة
من أجل هذا كله نال عند الناس منزلة قل أن يطمع فيها طامع، يعجب الناس بعقله حتى يقول سفيان: ما وزن عقل الأحنف بعقل أحد إلا وزنه، ويعجبون بسيادته وهيبته حتى يقول القائل:
إذا الأبصار أبصرت ابن قيس ... ظللن مهابة منه خشوعا
فلله الأحنف قائدا في الحروب لا يبارى، ولله الأحنف سيدا في قومه مطاعا، ولله الأحنف حكيما مجربا، ولله الأحنف بليغا مفوها، ولله السعدية إذ رثته فقالت: (نسأل الله الذي ابتلانا بموتك، وفجعنا بفقدك أن يوسع لك في قبرك، وأن يغفر لك يوم حشرك، فلقد عشت مودوداً