للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لا جرم انه اليوم رجل سياسة اكثر منه رجل محاماة، ولا جرم أن معضلة العبيد قد صار لها المكان الأول من همه فهو لن يرجع حتى ينفس عن صدره بما يفعل في هذه المعضلة التي صارت المحور الذي تدور عليه سياسة الاتحاد، والعقدة التي يتوقف على حلها مصير البلاد؛ وإنا لنرى فيه الرجل الذي يتطلبه الموقف شأنه في ذلك كغيره من عظماء الرجال الذين يظهرون في فترات الزمن ليتم بهم للتاريخ وسيلة تحركه، إذ يصبح لديه الرجل العظيم والفكرة العظيمة، فما أن يتمثل العظيم الفكرة ويمزجها بنفسه حتى يقدم لا يلويه شيء عن الغاية فيضل أو يهلك دونها وبذر البقية لمن يليه. . .

على انه كان في سنه يومئذ قد وصل من المحاماة إلى أوج الشهرة، فكان وهو في السابعة والأربعين الرجل الذي يظفر في مهنته بأطباق الناس على توقيره وإجماعهم على التسليم له بالنبوغ وطول الباع وسعة الخبرة، هذا إلى ما انفرد به من سجايا جعلته بينهم وكأنه اكثر من أن يكون منهم!. . .

وتوافت له فيما توافى من أسباب العظمة تلك الخصلة التي لا تقوم عظمة بدونها؛ والتي تجعل العظيم يظهر بين الناس وفيه شيء يحملهم على إكباره طائعين أو كارهين؛ شيء يحسونه وإن كان أكثرهم يجهلونه، شيء مبعثه ذلك السر العجيب الذي نعبر عنه بقولنا روح الرجل العظيم والذي يسميه بعض الناس الحماسة ويسميه بعضهم الإخلاص ويسميه آخرون الأيمان والذي هو في الحق مزيج من هذا كله لا ندري كيف يتم، مزيج ينبض به قلب العظيم ويجري في نفسه جريان الدم في عروقه. . . ومن الناس من وهبوا الذكاء الحاد والمهارة الفائقة ولكنهم حرموا تلك الخصلة فما استطاعوا في أعمالهم أن يرقوا بأنفسهم إلى مستوى أعلى من مستوى غيرهم؛ ومنهم من لم يعظم ذكائهم ولكن يمس قلوبهم قبس من ذلك السر العجيب فإذا هم غير الناس، ثم إذا هم فوق الناس. . . ومن هؤلاء النفر ذلك الرجل الذي درج في الغابة والذي بنى نفسه فسار في الحياة على نهج من قلبه وعلى دليل من طبعه، ذلك الرجل الذي لا يذكر لأحد عليه يدا والذي تنكرت له الأيام وعركته المحن فبقى كما يبقى الجوهر الحر لا تترك فيه النار من اثر إلا البرهان القاطع على انه جوهر حر لا مظهر. . .

وتشاء الأقدار أن تقوم عظمة أمريكا على كاهل رجلين من أبنائها درجاً في مدرج الشعب

<<  <  ج:
ص:  >  >>