للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

دار كتبه من داره، عرفته على حقيقته وفطرة نفسه، فكأنني لم اعرفه قبل ذلك اليوم. . . وما فارقته من بعد حتى فرق بيننا الموت. يرحمه الله!

أنني لاحس حين اذكره الساعة كأنني لست وحدي، وكان روحاً حبيبة تطيف بي وترف حولي بجناحين من نور، وكان صوتا ندياً رفيع النبرات يتحدث آلي من وراء الغيب حديثاً أعرف جرسه ونغمته؛ وكان عينين تطلان عليَّ من عالم غير منظور لتأمراني آمرا وتلهماني الفكر والبيان؛ ولكنني لا آري؛ ولكنني لا اسمع؛ ولكني هنا وحدي، تتغشاني الذكرى فتخيل آلي ما ليس في دنياي. هيهات هيهات لوهم الأماني!

لقد كان هنا صوت يتجاوب صداه بين أقطار العربية. لقد كان هنا إنسان يملأ فراغاً من الزمان. لقد كان هنا قلم يصر صريراً فيه رنات المثانى، وفيه أنات الوجه، وفيه همسات الأماني، وفيه صرخات الفزع؛ فيه نشيج البكاء، وفيه موسيقى الفرح. . . خفت الصوت، ومات الإنسان، وتحطم القلم؛ ولكن قلب الشاعر ما زال حياً ينبض، لان قلب الشاعر أقوى من الفناء.

في كل يوم يموت أديب من أدباء العربية وينشا أديب؛ فأين، أين الأديب الذي يقوم لما كان يقوم له الرافعي؟ أين. . . أين الأديب الذي ينتدب بعد الرافعي ليقف لكل من يحاول التقحم على قدس القرآن؟ أين. . . أين الأديب الذي يقف قلمه وبيانه للدفاع عن العرب والعربية والإسلام؟ أيمانه. . أين الكاتب الألمعي الذي يصور طهر الحب، وسمو الإنسانية، والأم البشرية وأفراح الحياة، فتنبثق نورا في كل قلب، وتتفجر شعورا في كل وجدان؟ أين خليفة الرافعي الذي يقوم على سداد هذا الثغر المعطل؟ أين حامل اللواء، وأين صاحب القلم؟

لقد كان الرافعي عصراً بتمامه من عصور الأدب، وجيلاً بناسه في تاريخ العرب، وفصلاً بعنوانه في مجد الإسلام.

كانت الدنيا تموج من حوله بأناسيها وحوادثها، وتضطرب حواليه في أمانيها ونوازيها، وتصطخب في محيطه بشهواتها ونوازعها؛ وهو وحده يعيش من هذا المحيط المضطرب المائج المصطخب في دنيا وحده لا يسمع إلا همسات روحه، ولا يحس إلا خلجات قلبه، ولا ينظر إلا الهدف الذي يسعى إليه. وهيأه القدر بوسائله العجيبة لهذه الوحدة العقلية منذ صباه حين سلبه السمع، فعاش حياته بعيداً عن دنيا الناس، ومضى في طريقه كما يمضي

<<  <  ج:
ص:  >  >>