العروبة، ولكرامة الإسلام. كان ذلك عرضه الذي يحرص عليه أن ينتهك؛ فمن ثم كانت خصوماته الأدبية كلها فيها معنى الدم!
الدين، واللغة، والقران، أو العروبة والإسلام: ذلك كان مذهبه في الأخيرة، وله كان جهاده؛ حتى في الحب - وللرافعي حب مشهور - وحتى فيما أنشأ من رسائل الحب، لم يكن الرافعي يعتبر إلا مذهبه والهدف الذي يسعى إليه: للدين، وللغة، وللقران. . .
من شاء فليقرأ كتبه الثلاثة في فلسفة الجمال والحب، ليرى فيها كيف تسمو روح العاشق على شهوات البشرية حتى تتصل بخالقها الإطلاق؛ ثم ليرى العربية أسلوباً جديداً، فيه عمق الفن، ودقة التعبير، ووضوح الأداء، حتى في الترجمة عن أعمق ما تجيش به خفايا النفس الإنسانية.
ولأدب الرافعي ميزة ليست لكثير من أدباء الجيل؛ فهو أدب عليه طابع الخلود وتلك آداب إلى زوال. هذا أدبه بين أيدينا وتحت أعيننا، ما تزال تدفعنا إليه دوافع من أنفسنا في فترات متقاربة أو متباعدة، لنعيد قراءته ونتملى ما فيه من جمال وصدق وقوة. وذلك أدب الأدباء، ما يكاد القارئ ينتهي منه إلى ما يريد حتى ينساه فلا يعود إليه ولا يذكره، على ما فيه من لذة ومتاع!
لم يكن الرافعي يكتب تلك الكتابة الصحافية السوقية التي تلتمس للهو وإزجاء الفراغ؛ ولكنه كان يكتب ليضيف ثروة جديدة إلى اللغة، وينشئ أدباً يسمو بضمير الأمة، ويشرع طريقاً تسير فيه إلى عظمة الخلد، وسعادة الأبدية، ومجد التاريخ.
الرافعي! يرحمه الله! لقد عاش في خدمة العربية سبعاً وثلاثين سنة من عمره القصير، وصل بها حاضرها الماثل بماضيها البعيد؛ فهي على حساب الزمن سبع وثلاثون، ولكنها على الحقيقة شطر من عمر الزمان، وباب من الأدب، وفصل في تاريخ الإسلام.
لقد عاش غريباً ومات غريباً؛ فكأنما كان رجلاً من التاريخ بعث في غير زمانه ليكون تاريخاً حياً ينطق بالعبرة ويجمع تجارب الأجيال، يذكّر الأمة العربية الإسلامية بماضيها المجيد؛ ثم عاد إلى التاريخ بعدما بلّغ رسالته. . . لقد خفت الصوت، ولكنه خلَّف صداه في أذن كل عربي، وفي قلب كل مسلم، يدعوه إلى الجهاد لمجد العرب، ولعز الإسلام.