فإذا شاء الأديب أن يعقد من هذه الأطراف تشبيهاً، وجد قمراً يشرق إذا جن (الظلام) ووجد حبيبة تشرق إذا (توهج الحب) فكان لا بد من التصرف في التشبيه
ولكن الرافعي لا يتصرف؛ فما دام القمر يجلوه الظلام، فالحب إذن (ظلام) لأنه يجلو حبيبته، وسينساها متى انقطع عهد الحب وتختفي من أفقه، كما أن القمر يخفى إذا طلع الصباح. وهكذا يقول:
يا من على الحب ينسانا ونذكره ... لسوف تذكرنا يوماً وننساكا
إن (الظلام) الذي يجلوك يا (قمر) ... له (صباح) متى ندركه (أخفاكا)
فأما البيت الأول فمأخوذ عن العقاد الذي لا يعجب الرافعي شعره! وأما الثاني فهو الذي يعنينا. وفيه ترى (الذهن الشكلي) الذي يستسيغ أن يجعل فترة الحب (ظلاماً) كالليل، فترة انقطاعه (نوراً) كالصباح، لا لشيء إلا لأن القمر المشبه به يشرق في الليل ويخبو بالنهار
والحب الذي هو ظلام، لا يحتاج للتعليق، فما يوجد حب في الدنيا تظلم به الأرواح ولكن الرافعي هكذا يقول. . .!
وليست هذه خطرة عابرة تلتمس لها الأعذار فإن لها أشباهاً في هذه (الخاصية)
يقول الرافعي عن (حبيبته) بعد عدة جمل مملوءة بقياس الأبعاد والجهات والزوايا:
(فكأنها في كل ذلك دائرة مرسومة من الفكر لا يهديك البحث إلى موضع طرفيه هي محيطة بروحك من ثلاث جهات فلم يبق لك إلا الجهة التي تتصل روحك منها بيد الله)
فدعك من مدلول هذا الكلام وقيمته من (إنسان يحب) أو (يصف الحب)؛ ودعك من أنه كلام ذهني لا ينبض بحياة، ولا يدل على خلجة في الشعور، أو نبضة في الضمير، ولا يتعدى أن (متكلماً) يصور في (الذهن) أشكالاً تقع أو لا تقع، ولكنها يمكن عقلاً أن توجد، كفروض المناطقة
دعك من كل هذا، وتعال وأنظر كيف يتصور الرجل العوالم الروحية، أو العوالم الذهنية. . . أنه يتصور لها جهات. ولا بد أن تكون هذه الجهات الأربعة كالموسومة في علم الجغرافيا بالجهات الأصلية، وأنه متى أحيط الإنسان بثلاث منها فلم تبقى له إلا واحدة وهي الجهة الرابعة!
ولا يتأتى له أن للحياة - ولا سيما في فترة الحب - ألف جهة وألف منفذ، وأنها تؤتى من