هذه الجهات والمنافذ، ومن مسارب أخرى ومنعرجات وكُوىً ومداخل لا عداد لها. لأن الذي يتأتى له ذلك لا بد له من (نفس)، ومن (حس). أو لا بد له على الأقل من (ذهن) مشرق مرهف، لا تحده الأشكال الصماء.
على أن هناك خطأ نكشفه من باب الدعابة، (فالدائرة) ليست لها أربعة جهات كما تصور الرافعي، حتى إذا أحيط الإنسان من ثلاث لم تبقى إلا الرابعة، إنما يكون ذلك في (الأشكال) الأخرى، كالمربع والمستطيل!!
وبسبب من هذا يأخذ قوله عن الناس:
(وألبسهم على تفصيلهم قصاراً أو طوالا، كما خرجوا من شقي المقص: المجتمعين من الليل والنهار تحت مسمار الشمس)
أرأيت إلى (استيفاء (الأشكال) في التشبيهات؟ الليل والنهار كالمقص، في تفصيل الناس قصاراً وطوالا. . . لا باس! ولكنه تذكر أن للمقص المستعمل (الآن) مسماراً في وسطه فلا بد أذن من (مسمار) في المشبه؛ وهذا المسمار هو الشمس وبذلك يتم (الشكل) بالدقة بين عمل المقص، وعمل الليل والنهار، وبين تركيبه وتركيبهما مع الشمس كذلك!
ولن يخطر على بال الرافعي أن الليل والنهار وتحت الشمس من الظواهر الأزلية العميقة، وأن بناءها هكذا عمل سرمدي دائم من بدء الخليقة إلى نهايتها. أما بناء المقص فهو شكلي ووقتي؛ ليس بلازم أن يكون هكذا أبداً؛ كما أنه ليس بلازم أن يكون (التفصيل) بأداة واحدة هي المقص وهي على هذا الشكل؛ وما بين يوم وليلة تتغير الأدوات والآلات! فما تكون الشمس إذ ذاك؟
لا. لا شيء من ذلك يخطر على الذهن، ما دام الشكل مستوفي بكامل أجزائه وأوضاعه. وتلك هي العناية بتصوير الحقيقة الوقتية العارضة دون التفات إلى الحقيقة الأزلية الدائمة. وهذا ما أشرت إليه في أول المقال!
ويبدو لي أن الرافعي كان شديد الأثر في تلاميذه من ناحية (الأشكال)؛ فما هو ذا الأستاذ سعيد العريان يكتب عنه من كلمته الأخيرة بالرسالة فيقول:
(فكان يرسل عينه وراء كل منظر، ويمد أذنه وراء كل حديث، ويرسل فكره وراء كل حادثة، ويلقي باله إلى كل محاورة)