ثم إنهم لخطب فادح لا يطيقه المتمسكون بالعبيد من أهل الجنوب
وكأنما أحس المجتمعون بما أحس، وإلا فماذا دعاهم أن يهتفوا به؟ لقد تجاوبت باسمه جنبات المجتمع، فراح الرجال يتصايحون لنكولن. . . لنكولن. . . نريد أن نسمع لنكولن! وما كان له أن يتخلف وهو الخطيب الذي تهيب به مثل هاتيك المواقف وتواتيه عبقريته كلما أحست نفسه جلال الحادثات! لذلك ما لبث أن وثب من مكانه ووقف فيهم وقفة الخطيب وهو لا يدري ماذا يقول. وسكتت الأصوات بعد جلبة، وأستقر الرجال بعد أن كان بعضهم من فرط السرور والحماسة يموج في بعض. . .
وقف الخطيب أول الأمر صامتاً كأنما أغلقت من دونه مسالك القول؛ والناس ينظرون إلى قوامه السمهري وقد مال برأسه إلى الخلف وبرز بصدره إلى الأمام، والتمعت عيناه وتشكلت أساريره فبدت في مظهر يقصر عن وضعه معنى الجمال. وصفه أحد الحاضرين فقال:(كان في تلك اللحظة أوجه من رأت عيناي أبداً)
وتكلم فإذا المستمعون كأنهم رجل واحد، لا فرق بينه ولا اختلاف، وقد سرت إليهم من الخطيب موجة قوية من السحر! وسرى إليه منهم تيار شديد من الحماسة؛ وهو يرسل فيهم القول يجمع بين العاطفة تهز المشاعر، والحجة تبهر العقول، والأمثلة تبهج النفوس؛ وكانت تشتد العاطفة حيناً فتفيض عيون، ويلتمع الدليل آونة فتصفق الأكف وتنطلق بالهتاف الحناجر، ويروق المثال وتملح النكتة بين هذا وذاك فتجلجل الأفواه بالضحكات. . والخطيب يلعب بالأفئدة ويستهوي المشاعر ويستمر لا يفتر حماسه، ولا يكل منطقه، ولا يضعف صوته، والسامعون مأخوذون عن أنفسهم بما يقول حتى لقد ألقى مندوبو الصحف أقلامهم وأقبلوا بعقولهم وقلوبهم عليه يحرصون ألا تفوتهم كلمة من هذا السحر الحلال. . .
ذلك ابن الغاب قاطع الأخشاب! ذلك هدية الأحراج إلى عالم المدنية؛ كأنما قد هيأته الأقدار لرسالته فبعثته من موطنه قوياً قوة الطبيعة واضحاً كالشمس لا يحجبها غيم، ولكن أودعت في نفسه سراً عميقاً تحس لديه بما تحس به إذا وقفت في مدخل الغابة
أوضح في خطابه سياسته فلم يترك مجالاً للبس أو شك؛ وكان إلى التحذير والإنذار أقرب منه إلى التفاؤل والتمني؛ حذر الناس أن يشتطوا فيؤدي شططهم إلى انسحاب أهل الجنوب من الاتحاد فإنه ليحس في الجو ما يسبق العاصفة، وأنذرهم أن يتهاونوا أو يتخاذلوا فتذهب