وصل بي القطار المصري إلى محطة القنطرة على القناة، في منتصف التاسعة مساء؛ وركبت من ثمة قطار فلسطين، فلم يتحرك للسير قبل منتصف الثانية عشرة. ثم مضى بنا بين كثبان الرمل في صحراء سينا إلى غايته. فلم يكن لنا مع الظلام الدامس ووحدة مناظر الصحراء، إلا أن نأوي إلى مضاجعنا - غير الوثيرة - فما استيقظت إلا في الخامسة صباحاً وقد اجتزنا الحدود المصرية ووقف القطار في (غَزَّة) أولى مدائن فلسطين. ونبهتني أصوات الباعة على رصيف المحطة؛ ففتحت النافذة لأستقبل أول شعاعة من أشعة الشمس البازغة من وراء الجبال، تداعب أجفان النائمين خلف نوافذ القطار؛ وهب النسيم ندياً معطراً بأزهار النارنج كأنه يحمل أريجاً من أنفاس أهل الجنة. وسرحت الطرف فيما أمامي؛ فإذا صفحة مشرقة تتحدث عن جمال الطبيعة وقدرة الخلاق، لم يرَ المصريون لها شبيهاً فيما رأوا من جمال الطبيعة المصرية بين الإسكندرية وأسوان.
بيوت مبعثرة على رؤوس التلال وفي سفوح الجبل، وسهول رملية فيحاء قد نبتت فيها شجيرات القمح والشعير، وحدائق خضر ناضرة قد ملأتها أشجار البرتقال والنارنج والمشمش، ونخلة قائمة هنا، وخيمة مضروبة هناك، وكروم زاحفة على الأرض، وأعشاب نامية على الصخر، وأخاديد حددتها الأمطار في خدود الجبال؛ والقطار يسير في طريق ملتوية بين منحنيات الجبال، صاعداً منحدراً، ومشرقا مغرباً؛ كأنما اتخذوا له هذا الطريق ليجلوا على المسافر كل ما يمكن أن تجتليه العين من رواء الطبيعة في فلسطين؛ فما مللت النظر إلى هذه المشاهد الفاتنة واقفا في نافذة القطار ثلاث ساعات، حتى وصلت إلى محطة اللِّدّ في الساعة الثامنة صباحاً؛ ومحطة اللِّدّ هي المحطة المركزية في فلسطين، ومنها تتفرع سكة الحديد فروعها إلى مختلف أنحاء البلاد، أو يستمر القطار سائراً في طريقه إلى دمشق. . .
وانتظرت في محطة اللد زهاء ساعة، قبل أن يتحول بي القطار في طريقه إلى القدس المطهرة؛ وفي الطريق بين اللد والقدس، صحبني شاب من أدباء فلسطين أُنسيتُ اسمه؛ فأخذ معي في حديث طويل عن السياسة وآخر أنباء الثورة ومصير فلسطين؛ وكان يتحدث إلي في حماسة وقوة وانفعال كأنه خطيب على رأس كتيبة يحمسها الجهاد؛ فوالله ما أدري أكانت شدة أسره في الحديث أم روعة المناظر من حولي أحب إلي. . .