للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فقلت بضجر: (لا تحاوريني كما يفعل هذا الضمير المتعب)

فغمزت بعينها إن هس لئلا ينتبه الضمير الراقد فتكون ليلتنا سوداء ثم قالت بصوت مسموع: (لكن أي كلام ليس أكثره على الأقل فارغاً)

قلت: (صحيح ولكن أني حر كالهواء؟ هذا لا يطاق ولا أدري كيف أزدرده صديقي بلا اعتراض)

قالت: إما أن الصديق لم يفهم أو لم يدرك حق الإدراك وأما إنه فهم وأثر المجاملة واتقاء المصادمة أو هو كغيره يفشر ويمعر فهو يحملك جميل الصبر على فشرك لترده إليه حين يفشر هو) فكادت تفحمني ولكني كابرت وقلت: (ولكني لا أحب أن أكون فشاراً)

قالت: (لا عليك فما أراك كنت فشاراً جداً. إن كل ما قلته هو أنه لا سلطان لأحد عليك غير طبيعتك وهذا صحيح وهو يصدق في كل حالة وعلى كل إنسان)

فسكت وماذا عسى أن أقول، وخطر لي أني قد أباهي ما شئت بحريتي المزعومة في التصرف فلن أكون إلا مخادعاً لنفسي في حقائق الحياة وما دام أني مسير بطبيعتي التي تسيطر عليَّ وتوجهني فأنا لا أستطيع أن أكون إلا ما تسمح لي به هذه الطبيعة فأنا أبدا مقيد بها وفي سجن منها لا باب له ولا أمل في فكاك أو خلاص في هذه الدنيا. وقد تثور نفسي وتمور عواطفي وتفور خواطري ولكنها لا تستطيع أن تفعل ذلك إلا بالقدر الذي تسمح به طبيعتي الخاصة وإلا في محيط هذا السجن. ومهما تكبر البحيرة وتعظم فأن لها من شطئانها حواجز ولا بد من زلزال يغير معالم الأرض لتغيير هذه الحواجز أو توسيعها أو إبعادها وعلى أنها تبقى بعد ذلك حواجز إلا إذا غارت البحيرة كلها واختفت من الدنيا

وخيل ألي وأنا أفكر في هذا أن طبيعتنا أو فطرتنا تجعلنا في حياتنا خاضعين لسلطان يد أو أيد تمتد إلينا من وراء القبور وأن الماضي هو الذي يسيطر علينا لا الحاضر وأنه ليس لنا أن نتجه في سيرنا في هذه الدنيا إلا إلى حيث تديرنا هذه الأبدي الخفية التي تمتد من ظلام الماضي

وتذكرت وأنا أدير هذا المعنى في رأسي كيف تزوجت، وأقص الخبر لأن له دلالته وعلاقته بهذا المعنى. كنت صبياً في الرابعة أو الخامسة - لا حين تزوجت من فضلكم - فزارنا خالي وامرأته ومعهما طفلة لهما من الله بها عليهما فتناولها أبي ووضعها على حجره

<<  <  ج:
ص:  >  >>