يحدث في الدنيا. وإنما معنى ما أسلفت من الأمثلة أن الكتلة البشرية لا ترمي بزمانها إلى كل من يدعوها إلى تغيير حالها وذلك بأن تقاومه وتناهضه ما وسعتها المقاومة لأنها تجري على عادة، والحرص على العادة أسهل من الأخذ بالجديد غير المألوف، ولكنها مع ذلك تتزحزح شيئاً فشيئاً عن مألوفها ولكن ببطء شديد، أو أقل ببلادة إذا شئت. فلا يستطيع من يدعوها إلى الجديد أن يحملها على الأخذ به كلا، فأنها لا تستطيع ذلك ولا تقوى عليه، ولهذا نرى الدعاة إلى الجديد يسرفون في الطلب ونرى الجماعة البشرية تسرف في الرفض أو المقاومة وبذلك ينتهي الأمر بالوصول إلى حد وسط معقول
وقد كانت الكتل البشرية فيما مضى تنتظر أن يجيء الدعاة إلى التغيير من أبنائها، ولكنا صرنا في زمن توثقت فيه الصلات بين الأمم قاطبة وصرنا لفرط السهولة في الاتصال وسرعته كأننا أمة واحدة، فإذا قام داع جديد في إنجلترا فأن صوته يسمع في الوقت نفسه في مصر والصين، وقد لا يحدث في مصر والصين مثل الأثر الذي يحدثه في بلاده؛ والأمر في هذا يرجع إلى درجة التهذيب في كل شعب ومبلغ استعداده لتقبل الدعوات الجديدة لا إلى بطء وصول الدعوة، ومن هنا قلت حاجة الأمة إلى داع خاص من أبنائها، لأن كل داع إلى جديد في أي قطر تبلغها دعوته كما تبلغ أهله، ومن هنا أيضاً صار التطور في زماننا أسرع لأن وسائل التبليغ والإلحاح على الشعوب ضارت أسهل وأسرع وأقوى وأفعل، وحسبنا الصحف والمطابع والإذاعة اللاسلكية مما لم يكن له وجود في الماضي
رأيت منذ أيام سيدة عجوزاً من معارفنا تمشي في الطريق مع زوجها الهرم وفتاتها الناهد، وكنت أعرف هذه الأسرة شديدة الحرص على تقاليد الحجاب. ولكن الزمن جرفها بسرعة التطور الحادث فيه فخرجت الأم العجوز سافرة تنافس بنتها الحديثة في الزينة وسار معهما الأب الهرم لا ينكر شيئاً من هذا الذي كان مثله قبل عشر سنوات يدفعه إلى التفكير في القتل. فهذا مثال لسرعة التطور من جرأة السهولة التي تصل بها الموجات الجديدة من الأمم الأخرى
وأعود الآن إلى بداية الكلام فأقول إن هذه الخواطر وأمثالها أرتني أن الحرية التي أزعمني ناعماً في حياتي أكثرها وهم ومغالطة للنفس في حقائق كبيرة، والقصد على العموم أولى