لنفسه؟ ثم رأيت أن أتركه وشأنه وأن أدع الأيام ترده إلى اتزان الحكم واجتناب التطاول بعقله القاصر المحدود على ما لا يدرك
ولغاتنا. . . أليست شجرة أصلها في الماضي السحيق. . . وكل لغة تتحكم في عقول أبنائها وتصوغها لهم وتصبها في قوالبها، ونحن نفكر على طريقة خاصة يضطرنا إليها احتياجنا إلى التعبير وفق أحكام خاصة للغتنا الموروثة بألفاظها ونحوها وصرفها وتراكيبها وقوالبها ومجازاتها، أي أننا نفكر على نحو ما كان يفكر الأقدمون من أبناء هذه اللغة. ولا سبيل إلى ذلك ولا مهرب منه
ونظام الوقف ماذا هو. . . إنه ليس إلا نظاماً يستطيع به رجل مات أن يحكم إرادته بعد زواله وخروجه من الدنيا في أجيال متعاقبة من الأحياء. ومن كان يشك في أن الموتى يتحكمون في الأحياء فليذكر هذا الموقف. رجل له مال سيتركه ويرحل عن الدنيا وكأنما يعز عليه أن يده سترتفع وأن ماله ستتولاه أيد غير يديه فينشئ وقفاً يقضي فيه بأن يرث الذكور ولا يرث الإناث أو يرث الإناث ولا يرث الذكور، ويخرج طبقة ويدخل طبقة ويهب من يشاء ويحرم من يشاء، ويتحكم بهذه الوسيلة في إرادات ناس لم يرهم في حياته ولم يعرفهم ولم يحببهم ولم يكرههم. . . أليست هذه يداً ممتدة من وراء القبر توجه الأحياء إلى حيث تريد، وتصرفهم عما لا تريد؟ وهنا موضع التحرز من خطأ قد يسبق إلى الأوهام، فلست أحاول أن أنتقد نظام الوقف أو غيره من النظم، وإنما أنا أسوق مثالاً لسيطرة الماضي على الحاضر وخضوع إرادات الأحياء لإرادات من أدرجوا في القبور. ولعلي لو كنت ذا مال لسرني أن أنشئ وقفاً وأن أعطي وأمنع، وأنعم على هذا وأبخل على ذاك، فأن السرور بذاك التحكم طبيعي والأمم التي لا تعرف الوقف تعرف ما يشبه مثل الوصية، وليس الوقف إلا ضرباً من الوصية أو لعل العكس هو الأصح
ولا يتسع المقام لتقصي وجوه الحياة ومبلغ السيطرة الواقعة عليها من الماضي. ثم إن هذا لا ضرورة له فإني أظن الأمر واضحاً وفي وسع من شاء أن يقيس على ما ذكرت
وليس معنى هذا أن حياتنا تتغير وأن الحاضر صورة دقيقة من الماضي وأن عصراً يذهب وآخر يجيء، بلا اختلاف ولا تفاوت ولا تقدم. كلا فأن القول بهذا لا يكون إلا سخافة. ونحن نشهد التطور بأعيننا في زماننا فمن التعنت أن يحاول أحد أن ينكر أنه لا يزال