الانخداع عن طريق الرجاء وأوقع في نفسه أنه إن يكن ما فاته في الماضي فأن ذلك لن يفوته هذه المرة فسيستيقظ أو سيكتب أو سيعمل عمله الذي ينوي، ولكن فقط بعد أن ينام أو يهدأ أو يستريح أو يفرغ مما هو فيه من موقف في قصة أو في لعبة أو في حديث. فينام أو يهدأ أو يستريح أو يفرغ ولكن غالباً مع تفويت ما كان يمني به نفسه أن يعمله بعد النوم أو الهدوء أو الراحة أو الفراغ. وهكذا دواليك. وليس أعجب في العراك بين خصمين من هذا النوع من الخدع والانخداع بين الشيطان والإنسان، فلو وزن كيد الشيطان هذا بأي ميزان غير ميزان الإنسان لشال فيه أقبح الشيل. وما كان للشيطان أن يغلب الإنسان أبداً بهذا النوع من الكيد بادي الضعف لولا أن الإنسان يعين الشيطان على نفسه بتصديقه إياه فيما قد ثبت له بالتجربة أنه يكذبه فيه. وما أظن الحديث الشريف:) لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) إلا منظوراً فيه في باطن الأمر إلى سد هذا الباب من كيد الشيطان وهو أوسع أبواب كيده. ولكن ما أبعد الإنسان من الوجهة العلمية عن صفات الأيمان!
رجعت إلى المنزل ولمقال الرافعي هذا صدًى يتردد في قلبي وذهني. وكنت أجد في نفسي إعجاباً بطريقته في التصوير وحنكته في التعبير وغوصه في التفكير. وكانت طرفة الطرف عندي في ذلك المقال الطريف خاتمته حين اشتد عجب الرافعي من ترك إبليس إياه يوم الأحد، يوم عطلة الأوربيين كأنهم لم يتركوا له وقتاً! وهي مفاجأة لم يكن يتوقعها القارئ، تدل على لطف ما للرافعي من فن. وتصورته وهو يكتب جاهداً ليفرغ من مقاله قبل أن يسترد إبليس بعض وقته الذي استغرقه الأوربيون ذلك اليوم! وإذا كنا كلنا سواء في الانخداع لإبليس فلسنا كلنا سواء والرافعيُّ في عدم الإلقاء إلى إبليس باليدين وفي التيقظ له وانتهاز الفرصة منه إن لاحت كما انتهز هو انشغال إبليس بالأوربيين يوم الأحد فكتب - رحمة الله عليه - للرسالة ذلك المقال الطريف
دخلت النزل وفي النفس ميل إلى القراءة فذهبت إلى أعداد الرسالة أتلمس ما كتب الرافعي فيها. وقبضت منها قبضة فإذا بيدي الأعداد ١٣١ إلى ١٤٠ فقرأت مقالة (اجتلاء العيد)، وكنت وأنا أقرأه أعجب لانثيال كريم المعاني على ذلك العقل، وانحياز نبيل العواطف إلى ذلك القلب، أو بالأحرى تجدد عجبي مما جمع الله الرافعي رحمه الله من حظ في عمق الفكرة ونبل العاطفة ودقة العبارة، وعجبت لبعض من لا يقدرون الرافعي كيف لم يقرءوا