وتنازع أبناء الصحراء حين قلت خيراتها فغلب الأقوياء منهم ضعفاءهم على جانب الخصب والري والرخاء، وتراجع الآخرون إلى جانب القفر كارهين حتى ألفوه طائعين، فذلك مع الوراثة هو السحر الذي يمتزج فيه الإكراه بالاختيار
على أن الوراثة - أو الألفة - عقدة واحدة من عقد السحر الكثيرة في كل صحراء، ولا سيما الصحراء التي هي أوفى إلى الجدب والخلاء، فمن عقدها ما يشبه التنويم المغناطيسي، ومن عقدها ما يشبه الخمر، ومن عقدها ما يشبه الشعوذة ولعب الحواة؛ وهذه عقد قلما يجمعها سحر واحد في نسق، فإذا اجتمعت فأخلق بفعلها أن يطغي على صواب العقول
ينام الإنسان النوم المعروف بالمغناطيسي إذا أتأر نظره إلى الشيء الواحد لا يتحول الشيء عن مكانه ولا هو يتحول عنه بنظره. وتنقضي هنيهات على ذلك فيخدر الحس وتشتمل عليه حالة من حالات الغيبوبة، وتنقاد الواعية لذلك الذي نومها هذا التنويم انقياد المعبود للعابد أو المفتون للفاتن، ملكها وملأها فلا مشيئة لها معه ولا فراغ لها من وحيه وسلطانه
فماذا تصنع الصحراء بالذي يدمن النظر إليها إلا أن تنومه هذا التنويم وتشمله بمثل تلك الفتنة وتقوده بمثل ذلك القياد!
أنه لينظر إلى مائة شيء فيها فإذا هو ينظر إلى شيء واحد لتشابه المناظر وتقارب الألوان والهيئات؛ وأنه لينتقل ميلاً بعد ميل وساعة بعد ساعة وكأنه قائم في موضعه لا يتزحزح منه قيد خطوة، لأن العبرة بما يقع في الواعية لا بما تقع عليه الأقدام، وأن النائم لينام بعد هنيهات قليلة فكيف يكون الحال بمن تنقضي عليه في تلك النظرة أعوام، ومن تنقضي على آبائه وأجداده في تعاقب تلك الفتنة أجيال؟؟
تلك هي العقدة المغناطيسية في سحر الصحراء
أما عقدتها التي تشبه الخمر فما هي الخمر إن لم تكن نشوة الطلاقة وعزة الإفلات من القيود، وتوهم القدرة على كل مطلب في غير حذر من رادع ولا مبالاة بملام؟
تلك الطلاقة هي سكرة الآفاق الواسعة أو سكرة الصحراء التي لا تقوم فيها الحواجز، ولا تصطدم فيها الحدود، ولا يشعر فيها المرء بين الأرض المديدة والسماء الرفيعة بطغيان