للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

كما هي في الأمم ميزة خاصة في الذوق واستعداد خاص لفهم الحياة والتمتع بها. فإذا كان العقل رائداً لبلوغ الحاجة، فليست الفطرة إلا القوة الممتعة للإنسان بتلك الحاجة بعد الظفر بها؛ وكما أن لكل فرد ثقافته التي تتجلى فطرته فيها، هكذا لكل أمة ثقافتها المستقرة في فطرتها. فلا ريب إذاً في أن سعادة الفرد والمجموع وشقاء كل منهما يتوقفان على ملاءمة الحياة أو عدم ملاءمتها لما فطرا عليه. وسواء أكان المرء مخيراً أم مسيراً في إرادته وأعماله فإنه على الحالين غير مخير في ذوقه في الحياة وفي لذته وألمه منها. فكل فرد خالفت طريقة حياته ما استقر من الحوافز في فطرته يفقد الشعور التام بتلك الحياة ويتعرض للسقوط في المعترك. وهكذا الأمم إذا خدعت نفسها وسارت في حياتها على ما يؤلم فطرتها فأنها تفقد قوت الارتقاء بذاتها فتميت شخصيتها دون أن تتدفق إلى الانبعاث في شخصية تستعيرها من سواها

وبعد أن وضعت هذا الحد بين الثقافة والعلم توجهت إلى تحليل عناصر الحضارة في الشعوب فقلت إن الخلاف الذي ينشأ بين باحثي مسألة الشرق والغرب إنما ينشأ من عدم التفريق بين المدنية الآلية الأدبية. فعندما يقوم أنصار الاتجاه إلى مدنية الغرب بدعوة عامة إلى (التفرنج) يثور عليهم أنصار الحضارة العربية مسفهين رأيهم داعين إلى مقاومة هذه الحضارة على وجه التعميم أيضاً. وهكذا يقع الفريقان في خطأ، لأن كل منهما يؤاخذ الآخر بتطرف يرتكبه هو. ولو أنهما ميزا بين الحضارة الآلية المبنية على العلم وبين الحضارة الأدبية المبنية على الفطرة التي كونتها السلالة والإقليم وتسلسل حوادث التاريخ لتوصلا إلى حل الخلاف!

بعد أن مهدت للرد على مناظري بهذه المقدمة وفصلت فيها فصلاً تاماً بين الحضارة الآلية والحضارة الذهنية، تناولت نظرياته متتالية واتجهت إلى تفنيدها. وهذه خلاصة من الرد أعرضها لبحث من يقدرون خطورة هذه المسألة بعد هذه المقدمة التي حددت فيها الثقافة ووضعت بينهما وبين العلم الوضعي ما أراه من فروق لا أخال مناظري معترضاً عليها أتناول بحثه في موضوع المناظرة سائراً على السبيل الذي أدى به إلى الاعتقاد بأفضلية الثقافة الغربية على الثقافة الشرقية العربية

وأول عبارة أراه يذهب منها إلى الاختلاف معي هي قوله:

<<  <  ج:
ص:  >  >>