ثم قيل: إن العقاد يستمد قوته من الصحافة؛ ولكنه طوى قلمه عامين كاملين وكان ذلك بعض ما دبره له خصومه الأقوياء. فماذا كانت العاقبة؟
لقد بقي العقاد مع ذلك جهير الصوت، مسموع الرأي، وأخرج للناس في هذا الفترة ثلاثة مؤلفات: أحدها (سعد زغلول) وهو يكفي وحده لخلود كاتب عظيم، وبقي خصومه يحسبون حسابه، ويتوقون قلمه، وبقي كل فرد في القراء يرتقب عودته إلى الميدان. . . وقد عاد!
ثم لماذا يكون العقاد قوياً بالسياسة وحدها، وخصومه - ومنهم الرافعي - كانوا يلجئون إلى الدين، وهو أقوى أثراً من السياسة، وأتباعه أكثر من أتباعها، فلم لم تكن لهم الغلبة وسلاحهم أقوى وأبرز؟
الحق، أن كل هذه تعلات وأوهام، وخطأ في تقدير أسباب الغلبة، ووسائل البروز، وإغفال للقوى الذاتية الكامنة التي هي مدار كل نصر وظهور في عالم الوجود
ألف حزب سياسي، وألف صحافة، وألف مناسبة طارئة، لم تكن كفيلة بإبراز العقاد، لو لم يكن العقاد نفسه قوة من قوة الطبيعة، وطاقة من طاقة الحياة؛ ولو لم تكن في أطواء نفسه ومواهبه، بذور العظمة، وخميرة التفوق، ودوافع النهوض
إنما انتصر العقاد لأنه يكتب في السياسة بالهام من الوطنية، ثم يجنح بالوطنية إلى النزعة الإنسانية، وينفق في هذا كله من ذخيرة روحية لا تفنى
والحقيقة أن العقاد - مع هذا - مغبون أشد الغبن، في مدى شهرته، وفي نوع شهرته. مغبون لأنه في بيئة بينه وبينها عشرات الأميال من الفوارق والخطوات، وقل فيها من يتابعه في سموقه، أو يترسم خطاه على بعد المسافة. ومغبون لأنه ليس معروفاً بخير ما فيه، لأن خير إنتاجه، يتطلب قراء من نوع مفقود أو شبه مفقود
ولو فهم ذلك بعض من نفسوا عليه وحقدوا، لأراحوا بالهم بعض الشيء، أو لعلهم كانوا يزيدون عداء وحقداً. . .
ويخطئ الذين يحاولن أن يدرسوا العقاد - ولا أقول ينتقدونه - وكل محصولهم من الثقافة، كتب لغوية درسوها، وكتب أدبية فهموها من آداب اللغة العربية. فليس العقاد أديب لغة وأديب أسلوب، حتى تكفي اللغة ويكفي الأدب الخالص في فهمه، ولكن نتاج العقاد مجتمع ثقافات ودراسات قديمة وحديثة، عربية وغير عربية، مصهورة في بوتقة طبيعة ممتازة،