ونفس رحبة، وذهن مشرق ومواهب تنتفع بالثقافة، وتعلو على حدود الثقافات!
ولقد رقيت إلى محاولة استيعاب العقاد - وأفلحت إلى مدى - على درج من دراسات شخصية جمة، ليست دراسة الأدب العربي ولا اللغة العربية إلا أولى خطواتها. دراسات تشمل كل ما نقل إلى اللغة العربية - على وجه التقريب - من الآداب الإفرنجية: قصة ورواية وشعراً، ومن المباحث النفسية الحديثة: نظريات العقل الباطن والتحليل النفسي والمسلكية. . الخ ومن المباحث الاجتماعية والمذاهب القديمة والحديثة ومن مباحث علم الأحياء - بقدر ما استطعت - وما نشر عن دارون ونظريته ومن مباحث الضوء في الطبيعة، والتجارب الكيماوية. ومما استطعت أن أفهمه عن أنيشتين والنسبية، وعن بناء الكون وتحليل الذرة، وعلاقته بالإشعاع. . . الخ
ولا أفصل أو أتوسع في هذا، فحسبي أن أقول: إنني انتفعت بكل معرب أو مؤلف، عن النظريات العلمية والفلسفية الحديثة في شتى أنواع الثقافة، مدفوعاً في ذلك بميل طبيعي، كان يسيرني - دون إرادة - حينما أتناول صحيفة كالمقتطف مثلاً أن أبدأ بقراءة البحوث النفسية، ومباحث علم الحياة، وما قد تتضمنه عن علم وظائف الأعضاء، وعن تحطيم الذرة. . . وما أشبه ذلك قبل أن أتناول ما بها من بحث أدبي أو قصيدة!
وبكل هذه الثقافات بعد الثقافة الأدبية، وبعد استعداد نفسي انتفعت في فهم العقاد واستيعابه إلى حد ما. وسأزداد له فهماً كلما اتسع مدى ثقافتي، وفتحت جوانب نفسي، وقويت نوازع الحياة فيها
فالذين يحسبون الأدب مادة لغة أو أسلوب، ويعتمدون على نفوس ضيقة وأذهان محدودة، وثقافة من لون واحد، لا يصح لهم أن يطمعوا في دراسة العقاد، ولا يجوز منهم أن ينقدوا العقاد، لأن أدواتهم لا تزال ناقصة، أو معدومة فيما يتصدون له. بينما الرافعي أستاذهم لغة وأسلوب متى فهما لم يبق شيء وراءهما غير مفهوم، فهو سهل جداً لا يكلف مجهوداً ولا عناء.
واللغة والأسلوب وحدهما لم يكونا كافيين لدراسة أي شاعر عربي عظيم، في وقت لم تكن الثقافة الإنسانية قد بلغت مبلغها الآن، والذين يراعون اللغة والأدب المحض وحدهما لا يستطيعون دراسة المتنبي ولا المعري، بل لا يستطيعون دراسة ابن الرومي وأبي نؤاس،