لأن جداول من الفلسفة ومن الفلك والطب والتنجيم وسواها، قد صبت في ثقافاتهم؛ فكان لا بد من قسط يعادلها عند نقادهم مع الاستعداد النفسي الأصيل إذا شاءوا النقد على حقيقته
وأقرب مثل على فساد النقد الذي يتصدى له اللغويون والأسلوبيون، ما أورده الأستاذ محمود محمد شاكر عن قزح وقوسه، وناقشته فيه في العدد الماضي. فهو يأخذ على العقاد نقده لبيت شوقي:
قصراً أرى أم فلكا ... وشجراً أم قزحا
وذلك لأن العقاد قد قال بعد هذا:
ألقى لهن بقوسه ... قزح وأدبر وانصرف
فلبسن من أسلابه ... شتى المطارف والطرف
وفساد هذا المأخذ أن الأستاذ لا يفرق بين صورة لغوية وصورة ذهنية خيالية. فلفظة (قزح) في بيت شوقي، لا تزيد على أنها (لفظة) لغوية ليس وراءها صورة ذهنية متخيلة مقصودة. فالمرجع فيها إلى القاموس، والقول قول القاموس؛ أما هي عند العقاد، فتعني (حالة) خاصة مطلوبة، فيها قزح ملك الألوان، ممسكا قوسه، وهؤلاء الحسان ينازعنه عليها، فيغلبنه، فيسلم بالغلبة، ويلقي قوسه وسلاحه وينصرف فلبسن منها شتى المطارف والطرف. فالمرجع هنا للذهن والذوق لا القاموس
وقد عانى الرافعي ما عاناه شاكر، وما تعانيه المدرسة الرافعية كلها في تفسير العقاد، لأن عدتها للنقد من استعداد طبيعي وثقافة مكسوبة، شيء قليل
ولا حيلة في فهم كثير من أدب العقاد بغير الاستعداد الطبيعي، مع لون من ألوان الثقافة الإنسانية الحديثة. والأمثال على ذلك قد توضح ما سبق من إجمال. فها هي ذي قطعة من (وحي الأربعين) بعنوان: (سعادة في قمقم)
هنا قمقم سابح في الدم ... أسائلُ عنه ولم أعلم
جهلت حباياه حتى أتى ... عريف الطلاسم بالمعجم
ففيه كما قيل مسجونة ... سعادة بعض بني آدم
تجن جنونا بنور الضحى ... وتذبل في حبسها المظلم
وقد زعموا أن إطلاقها ... رهين بهمة ذاك الفم: