معنى، من يذكر كلمة السماء ولا يتصور هذه القبة الزرقاء، أو يسمع اسم الكتاب ولا يذكر هذه الصحائف المجموعة؟ كما يستحيل أن يكون بلا معنى بلا لفظ، لأن هذا المعنى يبقى خاطراً هاجساً في نفس صاحبه لم يدخل نطاق الأدب. ولكن الكلام في قطعتين أدبيتين، إحداهما تزدان بالتعبير الجميل، والأسلوب البارع ولكنها تصف شيئاً تافهاً، أو تدور على معنى سخيف، والثانية يتصور صاحبها ناحية من نواحي النفس البشرية، أو ظاهرة من ظواهر الكون، فتجيد التصور ولكنه يعجز عن التصوير، فأي هاتين أسمى مقاماً وأدنى إلى الأدب الخالص؟
هذه هي المسألة!
أما المتقدمون من نقدة الأدب العربي فأكثرهم على أن المعاني على قوارع الطرق، وإنما يتفاضل الناس بالألفاظ. وليس معنى هذا احتقار المعنى وتهوين شأنه، فإن للمعنى المقام الأول عند نقادنا، ونستطيع أن نقرأ الفصل القيم الذي عقده الإمام الجرجاني في الدلائل، ولكن معناه أن الشعور بالجمال عام، ولكن الناس يتفاضلون بالتعبير عنه؛ إذا نظر جماعة من الناس إلى مغرب الشمس في البحر، أو بزوغ البدر من وراء الجبل، أدركوا جميعاً جمال ما يرون (وإن كان كل يدرك على نسبة استعداده وهوى نفسه)، وإن وقف جماعة في موقف الوداع أحسوا جميعاً بالألم يغمر نفوسهم، ولكن هذا الإدراك وهذا الإحساس لا يسميان أدباً، وإنما الأدب هو الصيغة اللفظية التي يعبر عن هذا الإحساس؛ وعلى مقدار التوفيق في هذه الصياغة تكون قيمة القطعة الأدبية
هذا هو الحق، ولكن هذه الفئة من المجددين، أرادت حين عجزت عن الأداء المستقيم والصياغة البارعة والديباجة الصافية أن تقلل من قيمتها وتحقرها، وتسمي كل أديب يعرف للغته حقها وكل أديب آتاه الله ملكة قوية، تسميه سطحياً فارغاً. ولقد بلغ من فساد أذواق بعض هؤلاء المجددين أن قرأت مرة لواحد منهم فصلاً يقدم به لكتاب، فوقع له فيه مجاز حلو أحسست لما قرأته بمثل ما أحس به حين تطلع على من الطريق فتاة جميلة، وعجبت له من أين جاء به، ولكن عجبي قد بطل حين رأيته يتعذر منه، ويريد أن يواريه كما يواري المرء سوأته، لأنه - زعم - يكون (بهلواناً) إذا جاء بمجاز حلو، فليتصور القارئ أي شيء يكون الأدب إذا اطرح المجاز واقتصر على الحقيقة؟