للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يعلن جاثياً على ركبتيه الاعتراف الآتي:

(أنا غليليو، وفي السبعين من عمري، سجين جاث على ركبتي، وبحضور فخامتك، وأمامي الكتاب المقدس الذي ألمسه الآن بيدي، أعلن أني لا أشايع، بل ألعن وأحتقر، خطأ القول وهرطقة الاعتقاد بأن الأرض تدور)

إنه ولا شك قد غلب على أمره، لأنه قسر على أن يظهر أمام كل الأجيال القادمة بمظهر الحانث بعلمه المضحي بعقله ويقينه ومن أجل أن يتم انتصار الكنيسة عليه، وأن يودي بكل ما بقي له من شرف النفس، اضطر برغم منه أن يقسم بأن يفضي إلى محكمة التفتيش بأمر كل رجل من رجال العلم، يقول بهرطقة القول بدوران الأرض

ولقد أثار قسم غليليو هذا عجب الكثير من أهل زمانه ومن المؤرخين، حتى أن ذلك كان سبباً في أن ينكر عليه بعض أبناء عصر نعت (الشهيد). غير أن هؤلاء لم يقدروا ظروف الرجل قدرها. فلقد كان شيخاً كبيراً عمّر إلى السبعين من السنين المثقلة بالهموم والأحزان، وحطمته آمال الدنيا ومخاوفها، وهدمته متاعبها وواجباتها. وكم سعى متلهفاً من (فلورنسا) إلى (رومية) مكباً على وجهه ونصب عينيه تهديدات البابا، بأنه إذا تأخر عن القدوم (أخذ في الأغلال). وكان فوق ذلك مريض الجسم منهوك العقل، سلم إلى أعدائه بيد الذين كان من الواجب أن يحموه. ولم يكد يبلغ (رومية) حتى احتوته غرف التعذيب وانصبت عليه الآلام ألواناً. ولقد كان يعرف جيداً ما هي محكمة التفتيش. وكان يلوح له شبح (جيوردانو - برونو) بين اللهيب ماثلاً أمامه، كأنما ذلك كان بالأمس الفارط، وفي نفس تلك المدينة ومن أجل (هرطقة) العلم والفلسفة. وكان يتذكر أنه من قبل ثمانية أعوام أحيط برئيس أساقفة (إسبالاترو) وسلم إلى محكمة التفتيش متهماً بهرطقة العلم، وبقي بين براثنها إلى أن مات في غيابات السجن، وإن جثته أحرقت بعد الموت مع ما كتب بمرأى من (المؤمنين)

ولقد استمر اضطهاد (غليليو) كل أيام حياته، بل بعد مماته. لقد بقى في المنفى بعيداً عن أسرته، بعيداً عن أصدقائه، مقصياً عن صناعته النبيلة؛ وقسر على أن يظل خاضعاً لعهده بألا يتكلم في نظريته. ولما أن توسل إلى أعدائه، وهو بعد يعاني أشد آلام المرض وأعظم تباريح السقام، مقرونة بأقسى الآلام النفسية التي سببتها الكوارث التي نزلت بأسرته، طالباً أن يمنح من الحرية بعض الشيء، كان التهديد بإلقائه في غيابات السجن، الجواب على

<<  <  ج:
ص:  >  >>