لم تكن الكتابة عند الرافعي فكرة ومعنى وعاطفة فحسب؛ بل كانت إلى ذلك فناً وأسلوباً وصناعة، والأدب العربي منذ كان إلى أن يطوى تاريخه بين دفتين، هو فكر وبيان، ما بد من اجتماع هاتين المزيتين فيه ليكون أدباً يستحق الخلود. ذلك كان رأي الرافعي ومذهبه؛ فمن ذلك لم يكن يعتبر المقالة وقد انتظمت في خاطره معنى وفكرة، مقالةً تستحق أن تكتب وتنشر إلا أن يهيئ لها الثوب الأنيق الذي تظهر به لقرائها؛ وهذه هي المرحلة الأخيرة
وأول ما يعنيه في ذلك هو بدء الموضوع وخاتمته؛ لست أعني العبارة التي يبدأ بها والتي يختم، ولكني أعني طريقة البدء والختام في الموضوع. شأنه في ذلك شأن القاص: تجتمع له أسباب القصة بمقدماتها وحوادثها وما آلت إليه، مرتبة ترتيب الحادثة بما بدأت وبما انتهت؛ حتى إذا أراد أن يحكيها لمن يسمع أو يكتبها لمن يقرأ، قدم وأخر، وأظهر وأخفى، وبدأ القصة بما لم تبدأ، ليعقد (العقدة) ويرصد للحل والنفس مستشرفة إليه متطلعة إلى خاتمته. . . وكذلك كان الرافعي يفعل في مقالاته
. . . فإذا عقد العقدة ورتب موضوعه ترتيب الفصول في الرواية، آن أوان الأداء فأخذ له أهبته، فيطوي وريقاته ساعة، ليرجع إلى كتاب أي كتاب من كتب العربية يقرأ منه صفحات كما تتفق، لإمام من أئمة البيان العربي، فيعيش وقتاً ما قبل أن يكتب في بيئة عربية فصيحة اللسان. وخير ما يقرأ في هذا الباب، كتابات الجاحظ وأبن المقفع، أو كتاب الأغاني لأبي الفرج
وسألته في ذلك فقال:(نحن يا بني نعيش في جو عامي لا يعرف العربية، ما يتحدث به الناس وما ينشئ كتاب الصحف في ذلك سواء، واللسان العربي هنا في هذه الكتب. إنها هي البادية لمن يطلب اللغة في هذا الزمان، بعد ما فسد لسان الحضر والبادية. . .)
على أنه كان لا يفيد من هذه القراءة اليسيرة قبيل الكتابة إلا الجو البياني فقط. أما حروف اللغة، وأما أساليب اللغة فلم تكن تعنيه في شيء؛ فيقرأ عجلان غير متلبث كما يطالع صحيفة يومية، حتى يفرغ من الفصل الذي بدأ؛ ثم يطوي الكتاب ويستعد للإملاء
وإذا كان كثير من الكتاب تزعجهم الحركة والضوضاء وتعوقهم عن الاستمرار في الكتابة، فأن الرافعي كان - على ما في أذنيه - يزعجه أن يمر النسيم على صفحة خده. . . كان مكتبه إلى جانب باب الشرفة، وكان له نضد صغير إلى جانب مكتبه حيث أجلس ليملي