علي؛ فكان يلذني أحياناً والجو حار أن أفتح باب الشرفة لأتروح، فلا تكاد تهب نسمة بجانبه حتى يكف. وعرفت عادته هذه فكنت أغلق الشرفة والنافذة معاً، لأصلي حر الغرفة أربع ساعات أو يزيد حتى يفرغ من إملائه. وكان يؤذيني من ذلك أنني كثير التدخين؛ والحر والمجهود العصبي يزيدان الرغبة فيه، فلا يمضي ساعتان منذ بدأنا حتى يفسد جو الغرفة، فأفتح الشرفة برهة لتجديد الهواء نتبادل فيها الحديث ثم أعود فأغلقها ليملي علي. . . على أنه في غير وقت الكتابة كان يحب أن يقضي في الهواء الطلق أكثر وقته، حتى في برد الشتاء القارس؛ فكان إذا فرغ من إملائه خرج إلى الشرفة البحرية يفتح صدره للهواء يعبه عبا كما يقبل الشارب الحران على الماء في يوم قائظ. . .
ولم أكن أقاطعه حين يملي علي مقاطعة ما، إلا حين أشعر أنه يهم بالانتقال في الموضوع من فصل إلى فصل، فألقي إليه ما أريد أن أقوله مكتوباً في ورقة، لأحاوره في عبارة أو لأستوضحه معنى. . . ثم يعود إلى إملائه وأنا أكتب صامتاً وهو لا يرفع عينيه إلي. . . كأنما يتحدث من وراء ستار إلى سامع غير منظور، أو كأنه في نجوى خاصة ليس فيها سامع ولا مجيب. ولقد كان يخيل إلي أحياناً وأنا صامت في مجلسي والقلم يجري في يدي على الصحيفة وأذني مرهفة للسمع - كأنه في شبه غيبوبة يتحدث إلى نفسه والمجلس خال إلا منه، فما أنا فيه بشيء إلا إدراكاً غير مجسد. وأحياناً أخرى كانت تتسع روحه وتنبسط حتى تشملني، فما اكتب كلاماً يمليه علي، ولكن تمليه نفسي على نفسي وإن صوته ليرن في أذني بما سبق إليه خاطري.
ولم يكن يملي مسترسلا، ولم يكن يملي وانياً متمهلا، ولم يكن في كل أحواله سواء؛ فحينا يطاوعه القول، وحيناً يتأبى عليه فيسكت وهو يدق على المكتب بحديدة في يده ويغمغم بصوت لا يبين؛ فإذا طال عليه الأرتاج تناول كتاباً أي كتاب على مكتبه، فيفتحه فيقرأ كلمة أو سطراً أو جملة؛ ثم يطوي الكتاب ويعود إلى الإملاء. ولقد يراه من يراه في هذا الوقت فيحسبه يملي مما يقرأ وما به ذاك، ولكنها كانت لازمة من لوازمه تعودها حين يرتج عليه وتعود أن يجد فيها مفتاح القول. . .
ولقد أرتج عليه مرة فطال به الصمت، فمد يده إلى كتاب على مكتبه وهو يقول ضاحكاً: يا أخي، لقد تعودتها وما أجد لها علة، وتعودت بها أن أجد ما أريد عن أول كلمة أقرئها ولو