كان الكتاب معجماً لغويا. . .) وكان الكتاب الذي مد إليه يده هو (القاموس المحيط)، قلت:(إن في بعض الأشياء مثل المفاتيح العصبية. . .) قال: (صه، هذه هي الكلمة التي أريدها: المفاتيح العصبية. . .) ثم طوى الكتاب وعاد إلى الإملاء
وكانت له عناية واحتفال بموسيقية القول، حتى ليقف عند بعض الجمل من إنشائه برهة طويلة يحرك بها لسانه حتى يبلغ بها سمعه الباطن، ثم لا يجد لها موقعاً من نفسه فيردها وما بها من عيب، ليبدل بها جملة تكون أكثر رنيناً وموسيقى. وكان له ذوق خاص في اختيار كلماته يحسه القارئ في جملة ما يقرأ من منشآته، ولكني كنت أجد الإحساس به في نفسي عند كل كلمة وهو يملي علي. هذا الذوق الفني الذي اختص به، هو الذي هيأه إلى أن يفهم القرآن ويعرف سر إعجازه في كل آية وكل كلمة من آية وكل حرف من كلمة. وحسب القارئ أن يعود إلى تفسير الرافعي لقوله تعالى:(ولقد راودته التي هو في بيتها عن نفسه. . .) ليرى نموذجاً من هذا الذوق الفني العجيب في فهم اللفظ ودلالة المعنى، يقابله وجه آخر من هذا الذوق في اختيار ألفاظه عند الإنشاء. وكان إلمامه بمتن اللغة، وإحاطته بأساليب العربية، ومعرفته بالفروق اللغوية في مترادف الكلام - معينة له عوناً كبيراً من البلوغ بعبارته هذا المبلغ من البيان الرفيع. احتاج مرة أن يعبر عن معنى في أسلوب من أسلوبه، فأرتج عليه، فأخذ يغمغم برهة وأنا منصت إليه؛ فإذا هو يقرأ لنفسه من ذاكرته باباً من كتاب المخصص لابن سيده ثم دعا بالكتاب فأخرجته إليه؛ فما هو إلا أن فتحه حتى وقع على مراده، فطوى الكتاب وعاد إلى إملائه. . . وهو على صحة عبارته وسلامتها قلما كان يلجأ إلى معجم من المعاجم ليبحث عن كلمة أو معنى كلمة. ومع حرصه على أن يكون قوي العبارة عربي الديباجة قلما كان يستعمل عبارة من عبارات الأولين. وكم أجد على العربية من أساليبه ومعانيه. وكان له في إنشاء (الكناية) إحساس دقيق. وأحسب لو أن واحداً من أهل البيان أراد أن يتتبع ما أجد الرافعي على العربية من أساليب القول، لأخرج قاموساً من التعبير الجميل يعجز عن أن يجد مثله لكاتب من كتاب العربية الأولين؛ إذ كان مذهب الرافعي في الكتابة هو أن يعطي العربية أكبر قسط من المعاني ويضيف ثروة جديدة إلى اللغة، وقد بلغ ما أراد. إنني لم أعرف كاتباً غير الرافعي يجهد جهده في الكتابة أو يحمل من همها ما يحمل؛ وما أعرفه حاول مرة واحدة أن يسخر من