وما هي إلا لحظات حتى عبرت الجسر إلى الكرخ، الكرخ الذي كان فيه قمرا بن زريق، والذي سامرت في رحابه قمراً غادراً لا يحفظ العهد، ستفيض مدامعه بالدم يوم يتلفت فلا يراني. وهل كنت إلا طيفاً زار في السَّحَر بساتين الكرخ وبغداد؟
ومن الكرخ ركبت سيارة إلى كربلاء
وفي الطريق مررت على الإسكندرية وكنت مررت عليها في طريقي إلى الحِلة منذ أشهر، ورجَّحت أنها البلدة التي ينسب إليها أبو الفتح الإسكندري في مقامات بديع الزمان؛ ولكني في هذه المرة حاولت أن أعرف مكانها من الماء لأن عيسى بن هشام جعلها من الثغور الأموية، فاهتديت إلى أصلها بعض الاهتداء، وقد أصل إلى جوهر الحقيقة بعد حين
لم أقض في كربلاء غير لحظات، وهي مدينة تحيط بها الخضرة من جميع النواحي، وفيها قتل الحسين كما هو معروف، وللحسين فيها ضريح لم أزره ولكني شهدت قبته العالية، وهي مكسوة بالذهب الوهاج، وفي كربلاء ضريح آخر للعباس أخي الحسين، وهذان الضريحان يفيضان النور على كربلاء، وقتل الحسين كان نعمة على هذه المدينة؛ فقد أصبحت بفضل مرقده من مواسم القلوب
ومن كربلاء أخذت سيارة إلى النجف فأسلمتني إلى صحراء رأيت فيها الضب أول مرة، فتذكرت ما صنع الشعوبية حين وصموا العرب بأكل الضباب واليرابيع، والشعوبية كانوا جماعة من الأدباء لا يعرفون العواقب، وقد زعزعوا ما كان بين العرب والفرس من متين الصلات وسيلقون جزاءهم يوم يقوم الحساب
وأخذت تلك الصحراء تصنع بخيالي ما صنعت البادية بين دمشق وبغداد فكان فيها ألوان من خداع السراب. وبعد ساعة رأيت في الأفق ذهباً يتوهج، فحدقت فيه النظر لحظات ولحظات فرأيته يزداد إشراقاً إلى إشراق. فصح عندي أنه ذهب القبة العالية، قبة ضريح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعطر مثواه
ثم عبرت إلى النجف وادي السلام وهو مقابر طوال عراض عرفت ملايين الناس من سائر الأجناس
وأهل النجف يعتقدون أن من يدفن في وادي السلام لا يسأل في البرزخ، وهو اعتقاد