وكانت أَتارَا أولى المدن السبع التي اختيرت ميادين لذلك الصراع؛ وقد جاءها الناس ليشهدوا ما لم تقع عليه من قبل أبصارهم أو تتعلق به أوهامهم، وقد أَتَّفِق أن يكون الكلام أول الأمر لدوجلاس فيخطب الجمع ساعة، ثم يعطي من بعده ابراهام ساعة ونصف ساعة؛ ويختتم دوجلاس هذا الدور بعده بحديث يستغرق نصف ساعة
وكان دوجلاس في انتقاله بين المدن في ألينواس يتخذ مركبة فخمة يجرها ستة من كرائم الخيل، وحوله ثلة من الفرسان يتزيد بهم من الهيبة والأبهة؛ وكان إذا دخل مدينة من المدن يقف في مركبته وقد تكلف أكثر ما يطيق من الصرامة فما يكاد يلمحه الناس ويقبلون عليه مصفقين مهللين حتى تنقلب صرامته وسامة فيحيي الجموع بيديه وإيماءاته وابتساماته، ويلتفت لهذا ويهش لذلك كأنه ملك يتدلى من عليائه ليطلع على شعبه، وإذا هو حل بقوم أو سار إليه قوم عرف كيف يوحي إليهم تبجيله والإعجاب به، فهو بين الصلف وخفض الجناح، وبين الاحتشام والتبذل يحيى وجوههم وكبراءهم ويغمرهم بنعمة منه وفضل
أما لنكولن فكان ينتقل بين الناس كأحدهم؛ وكثيراً ما يكون دون بعضهم، فإذا أخذ مكانه في قطار أو في مركبة عامة مزدحمة كان بين ركابها كما كان بين الناس في نيو سالم حين كان يدير الحانوت أو حين كان يوزع البريد يتبسط لهم في القول ويسترسل معهم في شتى الأحاديث، ويقص عليهم من قصصه، وإن له في هذا كله لمتاعاً ولذة لن يحسها إلا من كان له مثل قلبه
والتقى الرجلان في أتاوا؛ واحتشد الناس في الموعد المضروب فضاق بهم مكان الاجتماع؛ وحانت ساعة الكلام، فوثب المارد الصغير إلى موضع مرتفع أطل منه على الناس فتمزقت بالتصفيق أكف أنصاره وتشققت بالهتاف حناجرهم، وهو يرسل نظراته في جنبات المكان ويوزع إيماءاته هناك، وهنا، حتى سكنت ريحهم فبدأ الكلام. . .
وكان يومئذ في الخامسة والأربعين، بادي الفتوة مرموق الشباب يتهلل وجهه لولا كدرة طفيفة هي مما فعلته به ابنة العنقود وسكنى المدن ولكنها كدرة كانت تنقشع حين تلتهب بالحماسة وجنتاه؛ وكان في موقفه بارز الصدر قوي الكتفين تتجه نظرات الإكبار إلى رأسه الضخم فما تلبث أن تلتقي بعينيه الزرقاوين السريعتين فترتد حاسرة كأنما غشيت من ضوء وهاج، وكانت تفتن الأنظار أناقة ملبسه ونظام هندامه، كما كانت تسحرها لفتاته وحركاته