للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

كأنما كانت تقع الأبصار منه على ممثل قدير عرف سبيله إلى قلوب محبيه فهو يحرص ألا ينحرف قيد شعرة عما يشيع في نفوسهم السحر من مظهره. . .

وتكلم دوجلاس فكان في كلامه ثبت الجنان زلق اللسان وكانت له في هذا الاجتماع خطة بالغ في إحكامها وتسديد خطاها، ومؤداها أن يرمي لنكولن والمتشيعين له بأنهم من المتطرفين الذين يريدون حل مسألة العبيد بالقوة، ثم يحمل على بقية رجال الحزب الجمهوري فيرميهم بالتذبذب. . . وراح يخطو في سبيل ذلك خطوات؛ فيتحمس ويعلو بصوته ويكثر من الإشارات، ولكنه كان يسمو بعباراته أحياناً فلا ترقى إليها إفهام الكثيرين؛ على أنه كان له من جاهه ونفوذه وهيبته في قلوب الجماهير عوض عن ذلك، فحسبهم أنهم يستمعون إلى ذلك الذي بات يتحدث باسمه كل إنسان، حسبهم أنهم يستمعون إلى دوجلاس السياسي الأشهر ورجل الثورة العزيز الجانب! وإن في كثير من النفوس البشرية لما يميل بها من غرائزها إلى الخضوع للسلطان والانقياد لكل ما يشير به ولو كان مما هو جدير أن يقابل بالعصيان

وجاء دور ابراهام فطلع على الناس بقامته الطويلة فهتف باسمه أنصاره وتحمسوا له، واتجهت إليه الأنظار وإنه ليبدو كأنما أخذته من الموقف ربكة فليس له تطلع دوجلاس وتحفزه! ونظر الناس إلى شعره الأشعث وإلى ملابسه المتهدلة وخاصة إلى سرواله الذي يقصر عن ساقيه فيكشف عن جزء منهما، وقارنوا دون أن يشعروا بين تلك الملابس وبين حلة دوجلاس الأنيقة فبدت أكثر حقارة مما هي عليه! وكانت تستقر الألحاظ برهة على محياه وقد ازدادت مسحة الهم فيه وضوحا، وبدا عليه ما يشبه المسكنة والانكسار. . ولكن الناس على الرغم من ذلك يرتاحون إلى مظهر ذلك المحيا ويشعرون نحوه بالحب!

ويبدأ الخطيب في صوت أجش تتخلله حشرجة ثقيلة؛ ثم ما هي إلا برهة حتى تنطلق تعسه على سجيتها، فإذا ذلك المحيا يتهلل ويشرق وتشكل أساريره بما يهجس في خاطره، وإذا تلك العينان الواسعتان المتسائلتان تنفثان بسحرهما إلى أعماق القلوب، وإذا الرجل يبدو في هيئة يتقاصر عن وصفها لفظ الجمال. وتتفتح مسالك صوته فينطلق رائقاً له رنين يتشكل حسبما يعبر عنه من المعاني، وكان يعلو صوته إذا تحمس فيدوي في أرجاء المكان

وينساب السيل لا يصده عن وجهه شيء ولا تمشي في صفائه كدرة على تدفقه وجيشانه!

<<  <  ج:
ص:  >  >>