على أن قرب الدار ليس بنافع ... إذا كان من تهواه ليس بذي ود
وانظر إلى البحتري كيف يبكي على فراق علوة الحلبية بما يثير العواطف والشجون:
قضت عقب الأيام فينا بفرقة ... متى ما تغالب بالتجلد تغلب
فإن أبك لا أشف الغليل وإن أدع ... أدع لوعة في الصدر ذات تلهب
ألا لا تذكرني الحمى أن ذكره ... جوى باطن للمستهام المعذب
أتت دون ذاك العهد أيام جرهم ... وطارت بذاك العيش عنقاء مغرب
ويالائمي في عبرة قد سفحتها ... لبين وأخرى مثلها للتجنب
تحاول مني شيمة غير شيمتي ... وتطلب مني مذهبا غير مذهبي
وما كبدي بالمستطيعة للأذى ... أسلو، ولا قلبي كثير التقلب
ولما تزايلنا من الجزع وانتأى ... مشرق ركب مصعد عن مغرب
تبينت أن لا دار من بعد عالج ... تسر، وأن لا خلة بعد زينب
ولكن ابن خفاجة لم يكن له من ذلك حظ قليل ولا كثير لأنه لم يكن له حبيب يبكي على فراقه ويطلب الشفاء مما قد ساهمه حبه ولم يكن له من لائم يلومه ويكلفه ما لاطاقة له به.
يكلفني عنك العذول تصبراً ... وأعوز شيء ما يكلفنيه
وإنما كانت حبيبته الطبيعة، والطبيعة ماثلة في كل مكان وزمان قريبة الوصال هينة اللقاء، ولأنه كان يرى أن كل ما في الحياة مجلس إخوان ود في بستان أو على ضفة جدول يقرضون الشعر، ويرشفون الخمر، ويمتعون أنظارهم بجمال الطبيعة الساحر، فلم يك في غزله إلا وصافاً للطبيعة، ولم يك في غزله ولهان، ولم يكن في غزله مفحشا. هذه ملاحظات قليلة خلاصتها انه لم يتفنن في غزله تفنن المحبين المغرمين أمثال ابن الدمينة والبحتري وغيرهما، ولم يفحش في غزله فحش أبي نواس.