نادمتها ليلا وقد طلعت به ... شمسا وقد رق الشراب سرابا
وترنمت حتى سمعت حمامة ... حتى إذا حسرت زجرت غرابا
ثم اقرأ قوله:
ومهفهف طاوى الحشا ... خنث المعاطف والنظر
ملأ العيون بسورة ... تليت محاسنها سور
فإذا رنا وإذا مشى ... وإذا شدا وإذا سفر
فضح الغزالة والغما ... مة والحمامة والقمر
ولاحظ بعد ذلك ما يمكنك أن تلاحظه: فلعلك ترى أن غزل ابن خفاجة لا يشابه غزل غيره من الشعراء: فهو غزل أشبه شيء بوصف مناظر الطبيعة: فهو حين يقف أمام محبوبته فيتغزل بها يكون كأنه واقف أمام منظر من مناظر الطبيعة، وكأن غرامه بالطبيعة وبمناظرها يغلب على شعره حتى في أوقات الغزل، فيشبه حمرة وجنتيها بالوردة الحمراء، وقامتها بشجرة الأسحل، ثم يرى من سوالفها السوداء فوق جيدها البلوري، ومن أطراف أصابعها التي خضبتها الحناء ما يذكره بالسوسن والعناب، ويشبه حسنها بالماء الصافي، وقلادتها اللؤلؤية بالحباب، وفي القطعة الثانية يشبه محبوبه بحيوانات الطبيعة: يشبه رنوه بالغزالة، ومشيه بالغمامة، وشدوه بالحمامة، ووجهه السافر بصفحة القمر المنير،
ولعلك تلاحظ أيضا أن غيره من الشعراء يقف في غزله موقف الولهان فيمعن في وصف محبوبه. وفي وصف حاله، ثم ينبري فيبدي شكواه ويتألم ويتوجع ويصف عاطفته المهتاجة ونفسه الملتاعة.
ألا ترى إلى ابن الدمينة كيف يبث في مقطوعته لواعج نفسه وكيف يبوح بوجده الذي يسره لمحبوبه حين يهب عليه ريح الصبا فيذكره بديار الحبيب:
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد ... لقد زادني مسراك وجداً على وجد
أإن هتفت ورقاء في رونق الضحى ... على فنن غض النبات من الرند
بكيت كما يبكي الوليد صبابة ... وشجوا وأبديت الذي لم تكن تبدي
وقد زعموا أن المحب إذا دنا ... يمل وان النأي يشفي من الوجد
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أن قرب الدار خير من البعد