والحب والنهي. ثورة طائشة مجتاحة تأكل الحرث والنسل؛ ولكنها ثورة لا تنال من الجسوم ولا من الحطام؛ ثورة لا شأن لها بنظام قائم ولا بحكومة ولا بجيش ولا بأسطول؛ ثورة منزهة عن السيف والمدفع، وعن المدية والخنجر؛ ثورة لا يقوم بها جمهور من الناس ولا جماعات منهم؛ بل ثورة فردية يشنها كل فرد منا على نفسه؛ ثورة نفسية يتسلح فيها كل فرد منا بالإرادة ويروح يهدم من أخلاقه ومن ميوله ومن نزعاته التي كونها فينا تاريخنا القديم؛ ثورة تقتل فيها الإرادة حبنا للسلامة وتواكلنا على الأقدار وصمتنا عن الحق والحق مهضوم مأكول، كأنما قد أصبحنا جميعاً شياطين خرساً، والساكت عن الحق شيطان أخرس؛ ثورة تحطم مُثُلُنا الأخلاقية القديمة، لتتبدل بها مُثلاً عليا من تلك المثل التي قادت أوائلنا بجيوشهم ومدنيتهم وعلومهم من شاطئ بحر الظلمات إلى جوف الصين
وكان صديق يتكلم متهدَّج الصوت منفعل النفس ثائر الوجدان. فلما فرغ من حديثه، شملنا صمت عميق ظل يسود مجلسنا حتى افترقنا لم يجر لساننا بكلمة واحدة
الطغرائي الشاعر
هو من أفذاذ الشعراء، ومن أهل البيان الذين يشار إليهم بالبنان. أنكره أهل زمانه على القاعدة السائدة في هذه الدنيا. وليس في ذلك عجب؛ ذلك بأن نكران الأفذاذ في زمانهم سنة أهل الشرق منذ أقدم عصورهم. وهذا الطغرائي على جلالة قدره يقول:
مالي وللحاسدين؟ لا برحت ... تذُوب أكبادهم وتنفطر
يغتابني عند غيبتي نفرٌ ... جباههم إن حضرت تنعفرُ
ألسنة في إساءتي ذُلقٌ ... يقتادها من مهابتي حصر
أنام عنهم ملء الجفون إذا ... أثارهم في المضاجع إلاَبر
يكفيهم ما بهم إذا نظروا ... إلىَّ ملَء العيون لا نظروا
تغيظهم رتبتي ويكمدهم ... جاهي فصقوى عليهم كدَر
فنعمة الله وهي سابغة ... عندي من الحاسدين تنتصر
يعجبني أنهم إذا كثروا ... قَلُّوا غناءً وإن هم كثروا
وليس من عجب في أن يحقد جماعة على الطغرائي في زمانه، وليس من عجب في أن يقول فيهم الطغرائي هذه الأبيات وأكثر منها مما يتضمن ديوانه. ولكن العجب في أن يُهمل