أيهم السيد السريّ، وأيهم السوقي الزرى، ومن العالم الخطير والعامي الفَدْمٍ؟ فربما شهد رجلاً عليه مسحة من طراوة العيش وبضاضة المتجرَّد، وشهد آخر تعلوه طبقة من التقشف والشحوب وفقد التطرية والنضرة، فأقبل يحسب ذاك سيداً ضخماً من رجالات الشعب ويعتبر هذا رجلا من عرض الجماهير أي رجل هذا، حتى إذا أفضت بهم خاتمة المطاف إلى ملابسهم ورجع كل مستحم إلى ثيابه وحليته فشد ما يهول هذا المتوسم بل يملأ فمه ابتسامة من أمر صاحبيه أن أمثلهما في حكم نظره وتوسمه حوذي أو سائس بغل أو قرد، وأن ثانيهما الزَّرى عنده سيد نبيل من تقتدي بهم الأمم وتحاضر الملوك
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد هصور
ويعجبك الطرير فتبتليه ... فيخلف ظنك الرجل الطرير
أكبر اليقين لا الظن أن الله ينظر إلى خلقه كنظرتك إليهم في حمامهم مجردين من كل عظمتهم المصنوعة الساحرة، أنبلهم عنده أنبلهم نفساً لا ثوباً
أجل. إن الحمامات هذه خليقة بأن تُجدَّ لنا هذه الحكمة والعظمة:
إذا أنت وزنت الرجال وقدرتهم فانظر إليهم مجردين من كل مظاهرهم الخداعة كما تنظرهم في حمامهم، ثم ليكن قضاؤك على الألباب لا الثياب
ناهيك من الحمام بيت فخم أنيق يقطر بنضرة ورفاهية كما يقطر بماء وحرارة، ويتنفس بدفء وفتور ساحر معجب كأنه فتور الجفون كله حسن وطلاوة وتنهدات كتنهدات الصبابة بيد أنها برد وغبطة، ذلك إلى ما في سجيته من إرسال النفوس على السجية والتحلل ساعة من قيود الكلفة والتعمل الاجتماعي وخلع شيء من التوقر القائل في خلع الأثواب إلى ما فيه من سويّة في المكانة وأسوة بين الطبقات
بيد أن حمامنا القديم ربما تكشف عن هنات شائنة لو تجرد منها لكان نعيماً دنيوياً. وأناشدك الله أيها القارئ ماذا أنت قائل إلاَّ الشر في ذلك البخور الكريمة البغيض الذي يحرقونه أو يطلقونه كما يقولون ليطير الأرواح الخبيثة وقد شهد الله أنه من بغضه وكراهيته خليق بأن يطير الأرواح الطيبة قبل الخبيثة
ليس يَقَرُّ بعيني عصري متأنق صقلته الحاضرة أن يشهد في جنبات الحمام هذه الصراصر والحشرات سباحة حواليه تقذي بها عينه، ولا يطيب قلب هذا المتحضر أن يتولى نظافته