رُبَّ حق فيه نفيس ومرذو ... ل، وميْن يرجى وميْن يخيف
إنما الفاضل الذي فضله في الخي ... ر والشر فاضل وشريف
وهذه أبيات لا تكتفي بتصحيح مبدأ في الأخلاق، بل هي تخلق مبدأ. ويطول بنا الحديث لو ذهبنا نشرح هذا المذهب ونناقشه، ونوازنه بمذاهب الأخلاق، وتعريف الحسن والقبيح، وبيان أسباب هذا الحكم، الخ، فنكتفي بشرحها في اختصار:
ليست عناوين الأخلاق المتواضع عليها هي الحكم الفصل في تقدير قيمة هذه الأخلاق، فالصدق مثلا لا يعني أن كل ما ينطوي تحته، فاضل وشريف، والكذب لا يعني أن كل ما ينطوي تحته مرذول وخسيس، ومثلهما بقية عناوين الفضائل المتعارفة. إنما مناط الحكم على الصدق وعلى الكذب، أمر آخر غير عنوانهما. ففي الصدق ما هو شريف ومرذول، وفي الكذب كذلك ما يكون هذا أو ذاك؛ وفي سواهما مثلهما
وكم من كذبه عظيمة ألقاها مصلح، أوفاه بها بطل، أو زخرفها فنان، هي اشرف وأعظم، من (صِدقة) حقيرة، ألقاها جاسوس، أوفاه بها مجرم، أو طرحها مطموس لا يبغي بها قصداً
وكم من (بوهيمية) عاش في ظلها فنان تمده بالخصوبة والإلهام، هي أشرف من استقامة عاش في ظلها جلف يقنع بها عن ضعف، أو انطماس بصيرة، أو فتور حيوية
وعلى أية حال فتلك نظرية تمر هكذا في ثلاثة أبيات، بين الركود العقلي والنفس في مصر، ولو وجدت حياة زاخرة لكانت موضوع جدل ومناقشة، ومثار انقلاب في مبادئ الأخلاق. ولكننا في مصر حيث الركود والاستهتار
والذي يهمنا منها الآن، هو دلالتها على طبيعة العقاد، التي لا تحفل الظواهر والأشكال، إنما يهمها تقدير العامل النفسي الباطن في الأعمال والأقوال
ومثل هذه الخطوات هي الخطوات التي يسميها بعض ذوي النفوس الضيقة، والأحاسيس الضامرة، فلسفة لا شعراً. ويعنون أنها صور عقلية عمل فيها الفكر وحده وقد اتضح من شرحنا لها، أنها تقوم على العامل (النفسي) أول ما تقوم، وأن الطبع الحي البصير هو الذي يوحي بها
وكل ما ينقض هذه الخطرات لتكون من العاطفة في الصميم، أن صاحبها لا يضع لها لافتة (يافطة) مكتوب عليها: (هنا شعر عاطفي)!