هذه قطعة واحدة من (عابر سبيل) يبعثها مشهد مألوف للجميع. وهو (على قارعة الطريق) ولكن المارة لا بد لهم من عين وذهن ونفس لتراه ثم تدركه، ثم تتغلغل فيه. وأنت خليق أن تجد عند العقاد كثيراً من هذا النوع ولا سيما في (عابر سبيل)
وللعقاد عناية بتصحيح مقاييس الأحكام على الطبائع والنفوس منشؤه أنه صاحب (نفس) خاصة، و (طبع) أصيل، فهو لا يتلقى المبادئ والأحكام من الخارج، ولكن يفيض بها من الداخل، ويسمع فيها منطق الحياة الخالدة، ووحي الإنسانية الدائمة، لا منطق الفرد العابر، ولا الجيل القاصر. ومن هذا النحو قوله عن (عدل الموازين) و (جلال الموت) وقد استعرضتهما آنفاً ومنه:
من ساء بالناس ظناً دون ما ألم ... أحق عندي بسوء الظن والتهم
أسيء ظنونك لكي مكرها أبدا ... كمن يظن ببعض الآل والحرم
هذه قوله رجل (إنساني) تزخر نفسه بالعطف وتفيض بالثقة، فينكر فلسفة سوء الظن ارتجالاً وتطوعاً، فسوء الظن عنده بالإنسانية أمر مكروه لا يقدم عليه الإنسان وله منفذ إلى رجاء فيها، كمن يظن ببعض الآل والحرم، بعد ألا يجد بداً يجد بداً من الظنون، وبعد أن ينفد معين الثقة والتعاطف والتنزيه الفطري للآل والحرم. . . ويقول:
إذا ما تبينت العبوسة في امرئ ... فلا تلحَهُ واسأل سؤال حكيم
أجل سلة قبل اللوم فيم انقباُضه ... وفيم رمى الدنيا بطرفِ كظيم
فما تحمد العينان كل بشاشة ... ولا كل وجه عابس بذميم
قطوب كريم خاب في الناس سعيه ... أحب من البشري بفوز لئيم
وهذه قوله رجل، معنَّيٍ بالغايات النفسية، لا بالمظاهر البادية على الوجوه ورجل يعدل (عدل الأناسي لا عدل الموازين) في الحكم على قيمة العبوسة والبشاشة في الجبين. ورجل عطوف يتقصى أسرار النفوس ويقدر أحوالها، ويوسع صدره لبدواتها ولا يتسرع في سوء الظن بها، وبذلك ينفذ وصيته السالفة.
ويقول:
لا تقل: فاجر وبرٌّ. ولكن ... قل: هو الصديق والمراء صنوف