للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولسنا هنا - بحمد الله - في مقام قرض الشعر، بل نحن إنما نعالج النظر في الأشعار كأنها شيء مستحيل صنعه، وذلك لكي نكبر جهود الشعراء إكبارا صافيا مبينا، ولكي ندرك مبلغ أقدامهم وكدهم وركوبهم الصعاب، ونتصور فضائلهم، ونعجب فلا نقضي العجب من قوة فطرتهم.

وسأحاول بوجه الإجمال أن أعطيكم فكرة عن هذه الصعاب:

ذكرت لكم منذ هنيهة أن اللغة آلة وأداة، أو بالأحرى هي مجموعة أدوات وعمليات صاغها العمل وسخرها لخدمته. فهي وسيلة جافية غليظة لا محالة، يستخدمها كل شخص، ويوقفها لحاجاته الراهنة، ويمسخها بحسب الظروف، ويطابق تفصيلها على كيانه الجسماني وتاريخه النفساني.

وأنتم تعرفون ما نسلطه على اللغة أحياناً من التجاريب والمحن. فان المدلولات ومعاني الكلمات وقواعد تأليفها ومخارجها وتقييدها هي ألد عيب لنا وآلات تعذيب معا. ولا مشاحة أننا نراعي بشيء من الاعتبار ما يقرره المجمع اللغوي، ولا مشاحة أن رجال التعليم ونسق الامتحانات وعلى الأخص غرور الناس يقيم بعض الحوائل دون تصرف كل فرد في اللغة على هواه. فضلا عن أن الطباعة في العصور الأخيرة كانت عاملا قويا للمحافظة على أوضاع الكتابة.

ومن ثم أبطأت الى حد ما تعديلات الإفراد، إلا أن أهم مزايا اللغة عند الشاعر هي كما لا يخفى خواصها أو طاقتها الموسيقية من ناحية، ومن الناحية الاخرى مدلولاتها المعنوية التي لا حصر لها (وهي القائمة على تكثير المعاني المشتقة من معنى واحد). واللغة من هاتين الناحتين أقل امتناعا على هوى الإفراد وابتكاراتهم وتصرفاتهم ونزعاتهم. وإن لهجة كل شخص وذخره الوجداني الخاص ليدخلان على تداول اللغة عنصر لبس، ومظان وهم، ومكامن بغتة، كلها لامناص منها ولا معدى عنها. وأرجو أن تلقوا بالكم جيدا الى هذين الأمرين: أولهما أن اللغة فيما عدا استعمالهافي أبسط لوازم العيش وأعمها ليست على الإطلاق أداة تحديد، بل هي على النقيض من ذلك، وثانيهما أنه فيما عدا بعض الاتفاقات التي لا تجيءإلا في النادر جدا وفيما عدا بعض تعابير ميمونة مفلحة اقترنت بقالب مفرغ محسوس، فليس في اللغة ما يجعلها وسيلة للشعر

<<  <  ج:
ص:  >  >>