للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولما كان الإنسان إنسانا بما له عزيمة وقدرة على استنقاذ ما يهمه من حكم العفاء الجاري على الأشياء، واحتفاظه بما ينقذ وإصلاح حاله وإقامة صرحه، فقد صنع الإنسان لهذه العاطفة الرفيعة ما صنعه أو عالج صنعه لسائر الأشياء التي يدركها الزوال مأسوفا عليها. فبحث واهتدى الى الوسائل التي يثبت بها وينتحي بسرها كيف يشاء أجمل أطواره النفسية وأصفاها، والتي يستطيع بواسطتها أن يعرض وينقل ويصون على تطاول الحقب أنماط أريحيته وهيامه وجيشان وجدانه. ثم كان من حسن العقبى أن اختراع وسائل البقاء هذه أتاح للإنسان الفكرة والقدرة معا على تعهد ما تمن به سليقته عليه أحيانا من قطع الحياة الشعرية بما ينميها اصطناعيا ويزيد في زينها وغناها. فتعلمّ أن ينتشل من مجرى الزمن وان يستخلص من الظروف هذه التواليف وهذه المدركات العجيبة العارضة التي قد كانت ذاهبة بلا رجعى لو لم يبادر فينا الكائن المتفنن الأريب الى معونة الكائن الوقتي ويسعف بمخترعاته النفس المحسة.

ولقد نشأت الفنون طراً لكيما تخلد أو تبدل (كل فن بحسب جوهره) لحظة من لحظات النعيم الزائل الى حقيقة راسخة من لحظات ممتعة لا انتهاء لها. فالعمل الفني ليس الا أداة مادية لهذا الإكثار أو التوليد المستطاع.

اللغة

والموسيقى والتصوير والعمارة أساليب شتى تتناسب مع اختلاف المعاني. وهي كلها وسائل لإنشاء عالم شعري أو لإعادة إنشائه، وهي تهيؤه بحسن التنظيم للبقاء، وتفسح بالعمل المدبر نطاقه وتوسع رحابه. إلا أن أقدم هذه الوسائل وأقربها مساساً وإن تك أشدها تعقدا هي اللغة. ولكن اللغة، بسبب طبيعتها المجردة وتأثيرها على الأخص في الفكر تأثيرا غير مباشر، وبسبب نشأتها الأولى ووظائفها في الشئون العملية، تورد الفنان الذي يمارس تنسيقها وصرفها الى الشعر مورداً معقداً عجيب التعقيد.

وما كان يكون في الدنيا شعراء لو أن الإنسان تمثل في وعيه المشكلات المطلوب حلها. (وما كان إنسان يستطيع تعلم المشي لو أستلزم المشي منه أن يتمثل ويستحضر في خاطره صوراً واضحة لجميع العناصر في أقل خطوة من خطاه)

<<  <  ج:
ص:  >  >>