قلت (الإحساس بالكون) وأعني أن الحالة أو العاطفة الشعرية قوامها (فيما أرى) إحساس ناشئ متولد، أو بعبارة أخرى، ميل الى الإحساس (بعالم) أو نظام مستكمل من النسب، ذواته وكائناته، وحوداثه وفعاله، وان شابهت واحدة واحدة ما يعمر به عالم الحس ويتألف منه وهو العالم المباشر الذي هي مستعارة منه، إلا أنها ذات صلة محكمة لا يحدها الوصف بأساليب حساسيتنا العامة ونواميسها. ومن ثم فهذه الذوات وهذه الكائنات المعهودة تتغير قيمها ومعانيها بوجه من الوجوه. فهي تتداعى وتتوارد ويلابس بعضها البعض على وجه يخالف كل المخالفة ما يجري في الأحوال العادية. فإذا هي (مدوزنة) إن جاز لي هذا التعبير، وإذا هي قد أصبحت متناسبة القياس متجاوبة.
وعالم الشعر بهذا الوصف فيه مشابه كبيرة بعالم الحلم.
صورة الشعر وأطياف الحلم
وإذ تطرقت كلمة (الحلم) الى مقالي، فإني أذكر لكم في كلمة عابرة انه في العصور المتأخرة من عهد مذهب المجازيين في الكتابة حدث خلط جل خطبه وإن هان تفسيره بين تصور الناس للشعر وتصورهم للحلم! فليست الأحلام ولا حالة النفس الحالمة شعرية بالضرورة. وهي قد تكون كذلك. ولكن صوراً تكونت بالمصادفة لا يمكن أن تكون صوراً ذات سياق وانسجام الا بالمصادفة.
بيد أن (الحلم) لشيوع معالجتنا له وتكرارها يساعد على تفهيمنا كيف أن الوجدان يمكن أن تطغى عليه وتفعمه وتجبله مجموعة من شتى ما تحدثه الانفعالات والمدركات العادية. فهو يضرب لنا مثلا متعارفاً عن (عالم محصور) تتراءى فيه سائر الأشياء الواقعة وتشكل بتشكل حساسيتنا العميقة، وعلى هذا النحو تقريباً تستقر الحالة الشعرية في أنفسنا وتنمو وتتحلل، أي أنها لا تجري بالضبط على قياس، وإنها متقلبة وغير اختيارية وسريعة العطب. وإننا نفقدها كما نحصل عليها عرضا. وفي حياتنا فترات لا ينجلي فيها هذا الإحساس الشعري، ولا تتبدى فيها هذه التوليدات المحببة، بل لا يخطر لنا إمكانها في بال، فالصدفة تهبنا إياها والصدفة تستردها منا.