رأى الكثير من أحوال أولئك السفسطائيين الذي كانوا ينادون بأن الفرد مقياس كل شيء! وبأن الحواس أساس المعرفة! وبأن حقائق الأشياء لا يمكن أن تعرف معرفة يقينية! بل والذين كانوا يعلمون أبناء الأثرياء الفصاحة والبيان ليجعلوا منهم خطباء قادرين على إقناع الناس واستهوائهم آناً بالباطل وآناً بالحق، كيما يفوزوا بمناصب الدولة وببعد الصيت وكيما يستطيعوا أن يدافعوا عن أنفسهم ويبرروا سلوكهم إزاء هجمات الخصوم والمنافسين، وأمام القضاة والجماهير!
شهد أفلاطون ذلك كله وسمع بإذنيه قول القائلين بأن القوة حق!، ورأى بعينيه كيف زج (الشعب) بأستاذه العظيم سقراط في السجن وكيف راح يستمع إلى تمويه (أصحاب الدعوى) ويصم أذنيه عن صرخة الحق التي كان يجلجل بها صوت ذلك الأستاذ المظلوم!. فكان لنا منه تلك المحاورات الكثيرة التي جعل بطلها سقراط، والتي تناول فيها أولئك السفسطائيين بالسخرية والتصوير، والتي دعا فيها إلى تلك المبادئ التي كانت ولم تزل ولن تزال نوراً تهتدي الإنسانية بضوئه الساطع في مجال العلم والفن، والسياسة والاجتماع، والآداب والأخلاق على السواء
أما (جورجياس) فكان من أئمة السفسطائيين ومن أشهر خطبائهم ومعلميهم. ولد سنة ٤٨٥ ق. م. وزار أثينا حوالي سنة ٤٢٤ ق. م. وكان يدعي أن في استطاعته أن يجيب على كل سؤال!، وكان يقول إنه ليس من الضروري أن تعلم شيئاً عن الموضوع لتجيب عن الأسئلة التي توجه إليك بشأنه!؛ ولقد حاول بعد هذا أن يثبت في كتابه (اللاوجود) أنه لا يوجد شيء!، وإذا وجد فلا سبيل إلى معرفته!، وإذا أمكن أن يعرف فلا سبيل إلى إيصاله للغير!!
لذلك نرى أفلاطون يكتب عنه محاورة خاصة هي المحاورة التي نبدأ بتقديمها اليوم للقراء الأعزاء. وقد نقلت هذه المحاورة إلى جميع اللغات الهامة كسائر محاورات أفلاطون. والترجمة التي سنعتمد عليها هنا هي الترجمة الفرنسية للدكتور (بول لمير أستاذ الفلسفة المعروف. ولكنا نرجو على أية حال أن تصلنا قريباً ترجمة أخرى من باريس كيما نقارن الترجمتين ونخرج منهما بالنص المضبوط
وقد جاء في مقدمة هذه الترجمة للأستاذ (بول) ما يلي: