فاحترمه العرب المسلمون، واحترمه إليهود، واحترمه المسيحيون، ولا يزال الى يومنا هذا أول عمل يأتيه الطبيب قبل ممارسة طبه. وهو عهد لا يختص به علم الطب وحده، فكل شعبة من شعب العلم لا شك تقبل ما يتضمنه من هيمنة الخُلُق على جميع مناشط الإنسان.
القيد الثاني
الى هذا الحد ليس هناك خلاف، فليس من ينكر أن العلم لا يستطيع تحرير رجاله باعتبارهم أناسي من الشروط الأخلاقية التي تضبط سائر الرجال والتي بدونها تضيع ثقة الناس بالناس. ولكن عندما ننتقل من رجل العلم الى طريقته ندخل أرض الفتاوى والمحللات، وهي دائرة يكثر فيها الجدل ويطول الحجاج، وهنا قد يسرف العلم ويغلو كما أسرف الدين من قبله وغلا. فالعلم الحديث يشغل من الدنيا الحديثة مكانا أشبه بالمكان الذي كان يشغله الدين في العصور الوسطى من الدنيا القديمة، ففي تلك العصور كان التفكير الإنساني ينبت في أرض طينتها دينية، وهي اليوم طينة علمية. كان هوى الناس في الدين وكان تقديسهم لقساوسته، فصار اليوم هو أهم للعلم وتقديسهم لأساتذته. ومن طلب الدليل على ذلك وجده في الذوق العام، فعظات الأحبار لا تقرأ إلا قليلا، وكتب رجال العلم المبرزين تشترى بكثرة وتطلب بلهفة.
وهنا يتساءل المرء، وقد نزل الدين عن عرشه للعلم، أيخضع هذا المتوج الجديد للغواية كما خضع المتَّوج القديم، وهل يستدرج استدراجه ليؤول الى مثل مآله. ليس في التاريخ ما هو آلم من تاريخ (الافتاء) في النصرانية، ولا أزرى منه ولا أكثر تحييرا وإرباكا، وهو مع ذلك موضوع للمتأمل خصيب. انه مليء بمناقضات من الجسامة بحيث لا يتصورها العقل. أنحى القديس بول على الفتوى التي تقول (دعونا نفعل الشر ليكون منه الخير) ومع هذا لم يؤثر هذا الأنحاء شيئا في أفعال القسيسين ولا في نظريات الأخلاقيين، وكان كل سؤالهم (في أي الظروف والى أي حد يجوز لنا فعل الشر ليحصل منه الخير؟)
هل يكون من العلماء يسوعيون كما كان من أهل الدين يسوعيون؟ وهل يكون لهؤلاء ناقد ساخر في القرن العشرين كما كان لأولئك في شخص بلايز باسكال في القرن السابع عشر؟ كان من مبادئهم أن لا عهد لهرطيق، ولا ذمام لزنديق، وان الكذب والتزييف مباحان في سبيل حماية العقيدة وانتشارها، وان التعذيب والقتل مشروعان في صالح الكنيسة، هذه