وقد طالما سمعت أصدقاءه يشكون لأن مقالاتهم عنه دفنت في مكاتب رؤساء التحرير!
وتلك ضريبة العظمة التي يسددها العقاد!
وإنه لمن المفزع أن يعقد الإنسان موازنة بين كتاب ابن الرومي وصداه بقوله حتى ليحس إنما ألقى به في موماة تائهة لا حياة فيها ولا إحساس. لا تستطيع إلا العبقرية دون سواها من المواهب الإنسانية أن تخرج هذا المؤلف على هذا النحو.
ولكي نعرف معنى هذا المقال يجب أن نستعرض (ابن الرومي) قبل هذا الكتاب وبعده، ثم نستعرض فهم الأدب والحياة، وفهم الفنون والطبائع قبل صدوره وبعده
فماذا كان ابن الرومي قبل كتاب العقاد عنه؟
إنه كان بضعة أخبار متناثرة في ثنايا بعض كتب الأدب والتاريخ القديمة أغلبها عن طيرته وتشاؤمه، وأقلها عن حياته ومعاشه. بضعة أخبار ضئيلة هب كما قال عنها الكاتب العظيم:(ومثلنا في ذلك كمثل المنقبين في المحفورات، إذ يعترون ببعض العظام المهمشة من جسم مدثور فهم يقيسون المفقود على الموجود، ويصنون بما وجدوه على الضياع، ولو لم يكن به قوام)
وماذا صار بعد كتاب العقاد؟
إنه صار إنساناً حياً، نراه ونأنس به، وندرك خفايا ضميره وخوالج نفسه، ونعرف حركاته وسكناته، ومن ورائها أسبابها وبواعثها، ولم تعد تخفى علينا ملامحه بين الملامح الكثيرة
وليس هذا بالشيء القليل، ولا بالميسور لكل كاتب. ولكنه ليس الكسب الوحيد الذي تخرج به، فقد عرفنا شكل خلقته بمحاسنها وعيوبها، وعرفنا أخباره وسيرته في لبابها، وعشنا معه في داره، ورافقناه في غدواته وروحاته، وعلمنا أسفاره ورحلاته، وشاهدنا ما حدث له من خير وشر، وما لاقاه من نعيم وجحيم
ولم نعرف هذا وذاك وحدهما، فقد تصورنا في لمحات سريعة صورة العصر الذي كان يعيش فيه، بل عشنا في صميم هذا العصر بضع ساعات، ولقينا شخصيات هذا المجتمع، وفهمنا طباعهم الغالبة، وسيماهم الظاهرة والباطنة، وكدنا نكابد ما كانوا يكابدون من تقلب الصروف، وألاعيب السياسة، وأعاصير الانقلابات، وتيارات الدسائس. . إلى آخر ما