للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تقدر وراء الاطلاع والملاحظة طبيعة فائقة مستعدة للنفاذ في اطلاعها وملاحظاتها، وفي تقييد ما تلاحظه، وطريقة تقييده كذلك

وما التفت العقاد إلى هذا كله إلا لأنه في خلة حب الحياة كابن الرومي مع الفرق بين طبيعته الصارمة، وطبيعة ابن الرومي المتماوجة. نعم هذا سر التفاته للحياة ومحبيها وطرائق حبهم وطبيعتها. ودواوينه فائضة بدلائل هذا الحب بل العبادة للحياة

ثم يتحدث عن (حب الطبيعة) بمناسبة حب الشاعر القديم لها:

(وصف الطبيعة شعراء كثيرون، ولم يمنحها الحياة إلا قليلون! أما الذين منحوها حياة نحبها وتحبنا، ونعطف عليها وتعطف علينا، ونناجيها وتناجينا، فأقل من هؤلاء القليلين.

وذاك أن الشاعر قد يؤخذ بأحمرها وأبيضها وأصفرها وأخضرها، ويفتن بما فيها من الزراكش والأفانين، ثم لا يعدو بذلك أن يمدح شيئاً قد يجد مثله في ألوان الحلي وأصباغ الطنافس ونقوش الجدران. أو نحن نخطو وراء ذلك خطوة فنقول: إنه لا يعدو بذلك أن ينظر إلى دمية فاتنة، يروقه منها وجه مليح، وقوام ممشوق وحسن مفاض على الجوارح والأوصال ولكنه لا يتطلع منها إلى عطفن ولا يفتش فيها عن طوية.

وقد يستريح الشاعر إلى الطبيعة لأنها ظل ظليل، ومهاد وثير وهواء بليل، وراحة من عناء البيت وضجة المدينة، فلا يعدو بذلك أن يستريح إليها كما تستريح كل بنية حية إلى الماء والظل والهواء. كذلك تهجع السائمة في المروج وكذلك تهتف الضفدع في الليلة القمراء.

وقد يمنحها الشاعر حياء من عنده، أو من عند الخرافات والأساطير، فإذا هي حياة بغيضة لا تصلح للتعاطف والمناجاة، ولا يصدر عنها إلا الفزع والإحجام، ولا تقوم بينه وبينها إلا الحواجز والعداوات.

أما الطبيعة التي تحب وتناجي، ويتم التعاطف بين الشاعر وبينها عن ثروة غزيرة من الشعر والشعور فهي طبيعة الحور الخافقات في الهواء، والعرائس السابحات بين الأمواج، والعذارى الراقصات في عيد الربيع، والجنيات الهامسات في رفرفة النسيم ورقرقة الغدير وحنين الصدى وحفيف الأغصان، وإن شئت فقل: إنها هي الطبيعة العامرة بما في البروق والرعود والسموات والأعماق من بطولة وعظمة ونضال جياش بالغضب الظافر والسطوة

<<  <  ج:
ص:  >  >>