قدرها إلى ما لم تبلغه في أية شريعة أخرى سواء كانت سماوية أو وضعية هو الذي سما بنفس السيدة أم البنين فاطمة بنت محمد الفهري - إلى هذا المقصد النبيل وبعث فيها الرغبة الملحة إلى بناء جامع القرويين بمالها الحلال الذي ورثته من أبيها وزوجها، لم تنفق فيه سواه احتياطياً منها وتحرجاً من الشبهة؛ وذلك عام (٢٤٥) وكانت لم تزل صائمة منذ شرعت في بنائه إلى أن تم وصلت فيه شكراً لله تعالى الذي وفقها لذلك العمل المبرور.
وهذا التاريخ الذي بنى فيه جامع القرويين لا شك أنه أقدم من تاريخ بناء الأزهر الذي كان سنة (٣٥٩). فقول الأستاذ فريد وجدي في دائرة المعارف:(إنه أقدم مدرسة في العالم بعد مدرسة بولونيا بإيطاليا فقد تقدمته بأكثر من أربعة قرون) غير صحيح، لا بالنسبة للقرويين كما رأيت، ولا بالنسبة إلى كلية بولونيا المذكورة لأن تأسيسها إنما كان سنة (١١١٩م) أي بعد الأزهر بنحو قرن ونصف. إذ أن مقابل تاريخ بنائه من الميلادي يكون حوالي (٩٧٠) وحينئذ فترتيب هذه الجامعات في القدم يكون هكذا: القرويين فالأزهر فجامعة بولونيا
ومن المعلوم أن القرويين لأول بنائها لم تكن على ما هي عليه اليوم من السعة والفخامة، فقد زيد فيها كثير، وجدد بناؤها مراراً، وأولى الزيادات كانت في أيام دولة زناتة سنة (٣٠٧)، ثم في أيام عبد الرحمن الناصر الأموي خليفة الأندلس الذي دانت له البلاد ردحاً من الزمن. وقع تجديد لبناء القرويين وزيادة أخرى فيه وذلك سنة (٣٤٥)، ثم كان إصلاح جديد في أيام المنصور ابن أبي عامر حاكم الأندلس وحاجب الخليفة هشام بن الحكم سنة (٣٨٨). ثم في دولة لمتونة في أيام أمير المسلمين علي بن يوسف ابن تاشفين نقض المسجد كله وزيدت فيه زيادة مهمة من جميع جهاته واحتفل في بنائه وزخرفته إلى الغاية وكمل ذلك سنة (٥٣٨) أي بعد وفاة أمير المسلمين علي بن يوسف بسنة.
ولما ملك الموحدون فاس سنة (٥٤٠) خاف فقهاء المدينة وأشياخها أن ينتقد عليهم الموحدون النقش والزخرفة التي فوق المحراب لقيامهم بالتقشف والتقلل، وقيل لهم إن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي يدخل غداً المدينة مع أشياخ الموحدين بقصد صلاة الجمعة بالقرويين، فأتى الحمامون الجامع تلك الليلة وغطوا على ذلك النقش والتذهيب الذي فوق لمحراب وحوله بالورق ولبسوا عليه بالجص ودهن بالبياض فاختفى أثر ذلك ولم يبق ظاهراً إلا البياض