ثلاثة نفر لكل منهم رأيه في الحياة ومذهبه، ولكنهم قد التقوا في مجلس الرافعي على هوى واحد، فأحلوه من أنفسهم وأحلهم من نفسه؛ فكان له من أحاديثهم شعور الشباب ولهم من حديثه حكمة الشيخ، وللأدب من كل مجلس يجمعهم وإياه موضوع حي مما كتب الرافعي لقراء الرسالة. . .
ومن هذه الموضوعات (قصة أب)
ذلك هو الصديق (ع) كان الله له. . .!
جلس مجلسه يوماً إلى الرافعي يشكو بثه وهمه والدموع تترقرق في عينيه؛ واستمع الرافعي إلى شكاته متألماً حزيناً؛ فما فرغ (الأب) من قصته حتى جمع الرافعي (قصاصات) الحديث فجعلها في جيبه وجلس يتفكر. . . ثم كانت (قصة أب)
وفي الأسبوع التالي كان زفاف أبنته إلى ابن أخيه في حفل أهلي خاص وصفه الرافعي في مقاله (عرش الورد)؛ وهو العرش الذي نظمه بيده الأستاذ سامي الرافعي لمجلس العروسين، وجعل فيه فنِّه وعاطفته نحو أخته وابن عمه وقدَّمه إليهما هدية عرس
ولما جلس العروسان ذراعاً إلى ذراع في عرش الورد، بارك لهما الرافعي ودعا؛ ثم خرج ليمضي ساعات في القهوة. ولقيني هناك وحدي، فانتحينا ناحية على حيْد الشارع لا يترامى إليها من أضواء القمر إلا شعاع حائل؛ وكان الرافعي يؤثر دائماً أن يجعل مجلسه على ذلك الرصيف في جانب من القهوة، ويسميه (بلاج طنطا) إذ كان انفساح الشارع أمامه، وما يتعاقب عليه في الليل والنهار من ألوان الجمال في الطبيعة والناس - مما يحبِّب إلى العين أن تنظر، وإلى النفس أن تنبسط، وإلى الفكر أن يبدع فيما يخلق من ألوان الجمال. . .
وكان الليل نائما يحلم، والطبيعة ساجية لا يُسمع من صوتها إلا همسٌ خافت، وفي الجو شعر يهزج في سِرار النسيم وفي حفيف الشجر، وعرائس الخيال تُطيف راقصة تنفح بالعطر وترفُّ بالنور. . ولكن الرافعي جلس مجلسه صامتاً لا يتحدث، إلا كلمات إلى النادل يطلب كوب ماء ليشرب أو جمرات للكركرة. . . واحترمتُ صمته فسكتُّ عنه. . .
ومضت ساعة، ثم رفع عينيه إليّ وهو يقول:(الليلةُ عرس ابنتي. . .!)
ولم يسمع جوابي، لأن دمعة كانت تترقرق في عينيه وهو يتحدث حبستني عن الجواب. . .!