للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

منشرح الصدر، ولا نكران أني كنت ساخطاً ناقماً، ومغيظاً محنقاً، وثائراً فائراً، ولكن هذا جانب، وذاك جانب، فأنا - في الجانب المشرق الوضاء من نفسي - أشعر بالاغتباط والمرح، فأدندن، ولكن هناك جانباً آخر حالك السواد لا يضيئه إلا ما يتهاوى فيه من صواعق الغضب، والجانبان لا يختلطان، ولا يتداخلان، ولا يعدو واحد منهما على صاحبه؛ فالسواد هنا لا يعصف بالبشر المتألق، والسرور هناك لا يمتد نوره إلى الظلمة الطاخية. . .

وعاد الغلام الخفيف الحالم بالحلاوة، ودفع إلي الرسالة المسجلة فنظرت إليها وأنا أتناولها منه، وعرفت ممن جاءتني قبل أن أفض غلافها. ولم يكن هذا لأني ذكي ألمعي أرى بأول الظن آخر الأمر من وراء الغيب، بل لأن الاسم مطبوع على الظرف

وابتسمت وأنا آخذ الرسالة، وأضعها على المكتب كما هي، وأنقدت الغلام المسكين قرشين، وأكببت على الورق أكتب. . وماذا عسى أن أصنع غير ذلك؟ لم تجئ الحوالة المالية المرتقبة، ولا ضير من هذا، ما كانت بي حاجة ملحة إليها، وهي خير إذا جاء فأنعم به وأكرم، وإذا لم يجئ فلا بأس، وستجيء على كل حال غداً إذا لم تجئ اليوم أو بعد شهر أو أكثر، ولو اقتصر الأمر على حرمان ما نعمت نصف ساعة بتخيله لهان، ولكن المضحك. . . نعم المضحك. . . أن يجيئني بالبريد المسجل في هذه اللحظة على الخصوص إنذار من محام بتنفيذ حكم صدر خطأ في غيابي، وعندي المستندات التي تثبت أني أبرأت ذمتي، ولكني لسوء حظي مهمل وشديد النسيان، فلست أذكر أين وضعت هذه الأوراق، وقد كلفني هذا النسيان ما لا يعلمه إلا الله، وبدا لي - لسذاجتي - أن من السهل أن أقنع الخصم بمراجعة أوراقه وحسابه ليتبين أني أديت إليه حقه. وخطر لي أن هذا أسهل من عثوري أنا على مستنداتي التي لا أدري ماذا صنع بها الإهمال، وكان الخصم يضحك مني ويقول للحاضرين (اسمعوا. . . هذا جديد. . . يريد مني أن أقدم أنا له ما يثبت براءة ذمته!! فلماذا لا يعد هو مستنداته؟) فأقول له محتجاً (يا أخي إن المسألة ليست مسألة خصومة وعناد، وإنما هي مسألة ذمة وحق، وعندك دفاتر مسجلة تقيد فيها مالك وما عليك وأوراقي لا أدري أين هي، والبحث عنها يضيع وقتي، ويطير عقلي، ولا صبر لي على هذا على كل حال؛ ولأهون على أن أؤدي إليك المال مرة أخرى من أن أنفق عمري وأطير صوابي

<<  <  ج:
ص:  >  >>