أحياناً أن يجلس على كرسي في الشارع أمام مكتب أخيه، حيث اتخذ الزبال (محله المختار) فكان يوافقه في مجلسه ذلك على ما قدمت من وصفه، فيرفع يده إلى رأسه بالتحية وهو يبتسم، ثم يجلس؛ فكان يحادثه أحياناً في بعض شئونه يلتمس بعض أنواع المعرفة. . . ويكرمه ويبره. وأنس إليه الزبال، فكان يسأل عنه إذا غاب، وينهض لتحيته إذا حضر؛ وصار من بعض عادات الرافعي من بعد، أن يسأل عن الزبال حين يغيب، وأن يشتري له كلما لقيه دخائن بنصف قرش، مبالغة في إكرامه. . .
وكان الرجل أمياً ولكن الرافعي كان يفهم عنه من حركات شفتيه، وأحياناً يستدعي بينهما من يترجم له حديث الزبال مكتوباً في ورقة، وقد كنت الترجمان بينهما مرة. وكان الرافعي يحرص على هذه الورقات بعد نهاية الحديث كما يحرص الباحث على مطالعة أفكار من غبر عالَمه!
ومما كان يدور بين الرافعي وصديقه هذا من الحديث، عرف الرافعي طائفة من ألفاظ اللغة العامية كان يجهلها، وطائفة من الأمثال ونبهه ذلك من بعد ' إلى العناية بجميع أمثال العامة، فاجتمع له منها بضع مئات بمصادرها ومواردها، وأحسبها ما تزال محفوظة بين أوراقه. كما أفاد الرافعي من صداقة هذا (الفيلسوف الطبيعي) معاني وأفكاراً جديدة في فلسفة الرضا لم تلهمه بها طبيعته.
ولهذا الزبال صنع الرافعي أكثر من أغنية، أعرف منها الأغنية التي نشرها لقراء الرسالة في العدد ٧١ سنة ١٩٣٤ وأغنية أخرى دفعها إلى الآنسة ماري قدسي معلمة الموسيقى بوزارة المعارف لتضع لها لحناً يناسبها.
وقد كان في نفس الرافعي أن يكتب مقالة عن هذا الزبال يتحدث فيها عن فلسفته الطبيعية العملية، وكان محتفلاً بهذه المقالة احتفالا كبيراً، حتى إنه همّ بموضوعها أكثر من مرة ثم عداها إلى غيرها حتى تنضج؛ وقد هيأ لها ورقة خاصة كان يجمع فيها كل ما يتهيأ له من الخواطر في موضوعها ليستعين به عند كتابتها، ولكن الموت أعجله عن تمامها، وأحسب أن هذه الورقة ما تزال بين ما خلف من الأوراق.