للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

من بعد عين.

أما الهرم الأكبر فلم يلبث أن عاوده السكون وغشيه الهدوء، وكأني سمعته حين أغمض عينيه ينشد شعرا غريبا، بل أكاد أجزم أني سمعته يتمتم، في صوت غامض مبهم، بهذه الأبيات الغامضة المبهمة:

العيش مستعذب عذاب ... والعمر تلهو به سراب

والناس تبني. وما بناءٌ ... إن كان في أسه الخراب؟

في إثر فوج يروح فوج ... فهل لذى روحة إياب؟

مهدٌ يضم الورى ولحد ... فهل هما البدء والمآب؟

الناس تجري على سفين ... في بحر وهْم له حباب

فلا سرور ولا صفاء ... ولا انتحاب ولا اكتئاب

ولا شقاء ولا نعيم ... ولا ابتعاد ولا اقتراب

للمرء من دهره سؤالٌ ... ما بالهُ راعه الجواب؟

ثم عاوده سباته العميق. وظل راقدا غارقا في رقاده، نائما يغط في نومه.

لم يكد عيسى بن هشام أن يبلغ هذا الموضع من حديثه، حتى هاج سامعوه وماجوا. وأخذوا يتصايحون ويتصارخون، وقال قائل منهم: اشهد يا ابن هشام لقد أدركك الخرَف ولم تعد تحسن الحديث. فما أحراك أن تمتنع عن التحدث إلى الناس! أو تكف عن الإدلاء بمثل هذه الترهات. أو قل إنك رأيت هذا في المنام، وإنه أضغاث أحلام.

ثم انصرفوا. ولبث عيسى بن هشام في مكانه، حزينا كئيبا، يندب جده العاثر، وبأسف على مجده القديم، حين كان يتحدث، فترهف لحديثه الإذان، وتميل نحوه الأعناق. ولا يكاد الناس يملكون أنفسهم من الإعجاب.

<<  <  ج:
ص:  >  >>