للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

قال: ان بلادك تحيا حياة جمود.

قال الهرم: ليست حياة الجمود بِشَرَّ من جمود الحياة

قال الناطح: أرجوك ألا تكلمني، بلغة الكهان القدماء واذكر أننا في عصر البخار والكهرباء، وفي القرن العشرين بعد الميلاد. لا قبل الميلاد منذ أربعة آلاف من السنين، كان فرعونكم يسأل كاهنه عن الأمر العويص. فلا يحير الكاهن جوابا. فيُلْجئه العجز إلى هذه العبارات المبهمة والاسجاع الغامضة. أما أنت فما أخرك أن تخاطبني بلغة العصر، وان تحدثني في صراحة ووضوح.

قل لي: انك لست إلا قبرا. ومع ذلك فأنت رمز لهذه الأمة القديمة. فكيف ترضى أمة حية ان يكون رمزها الذي يدل عليها قبراً من القبور.

قال الهرم: أنا رمز الخلود، رمز البقاء: رمز السَّرْمَدية التي تنتظم الوجود. ما هذه الآلاف السنين التي تذكرها غير حباب يطفو على موج الأثير الأزلي، وما أنت والنواطح أمثالك، وما بخارك وكهرباؤك سوى ذرات في هباء تذروها رياح الأبد. وما كيانكم وأقداركم وحظوظكم سوى اهتزازات في أطراف جناح الدهر الخفاق. .

لقد شغلتكم الحياة عن التفكير في الحياة. وأعماكم النور عن رؤية ما وراء النور، وألهاكم الوجدُ عن حكمة الوجود. . ولعمرك ماذا تستطيع في الدهر، وماذا تنال من الأزل شرارة لا تكاد تذكو حتى تخبو، ولا تكاد تبدو حتى تختفي؟

فأطرق الناطح مليا ثم قال: ان الحياة أعز لدي من سر الحياة، والوجود أحب إلي من حكمة الوجود. فدعني من أزليتك وأبديتك! ان ساعة واحدة من حياتنا الأمريكية الممتلئة حركة وجدا ونشاطا، أشهى إليَّ من آلاف السنين أقضيها مثلك رابضا فوق التراب في همود وخمود، وسبات ورقاد. إنني ضَحَّيتُ بالدهر من أجل الساعة، وأعرضت عن الأزل من أجل اللحظة.

قال عيسى بن هشام: ولم يكن الهرم يوما ممن يُطيلون الجدل، فحينما أبصر في محدثه كل هذا التمادي والغرور أعرض عنه لحظة. ثم حدجه بنظرات حداد. فإذا المغرور يرتعد وينتفض، ولم يكن إلا مقدار ما يسقط الشهاب، أو يلمع البرق، فإذا الناطح تندك أركانه، ويتداعى بنيانه، وتتساقط طباقُه السبعون بعضها فوق بعض، فأضحى هشيما منثورا. وأثراً

<<  <  ج:
ص:  >  >>